لقد حيّرت معضلة الشر الفلاسفة، وعلماء الدين عبر العصور، والتي لم يُحسم فيها الجدل بين الفريقين، وكلا الفريقين قدم ما يثبت وجهة نظره، وطرح لها الحجج والبراهين التي تذود عنها، ولعل أبرز القضايا التي كانت محلًا للبحث والنقاش قضية ماهية الشر، وهل هو مكون فطري كامن في النفس البشرية؟ أم أنه محصلة تلقائية للبيئة التي يعيش في كنفها الإنسان، فإن أخذنا بالقول الأول فقط؛ فقد سلبنا البيئة المحيطة أهميتها، وتأثيرها في وجود سلوك الشر، في حين أنه يستحيل أن نفسر الشر في ضوء الجوانب البيئية والظرفية بمعزل عن سمات الشخصية (المكون الفطري)، إنها مسألة معقدة، وتتشابك فيها عوامل ومؤثرات مختلفة.
سوف نناقش هنا سيكولوجية الشر، وسوف نحدد الميكانيزمات التي تدفع فردًا ما للقيام بفعل الشر، آخذين في الاعتبار الجهود البحثية التي بذلت من قبل علماء النفس في هذا المجال، مع عرض لأبرز النتائج التي توصلت إليها تلك البحوث، ومن أبرزها تجربة "سجن ستانفورد" التي أجراها عالم النفس فيليب زيمباردو عام 1973، حيث تمثل إطارًا تفسيريًا يساعدنا إلى حد كبير في فهم ما حدث من مجازر في سجن صيدنايا، والتي تمثل اعتداءً سافرًا بحق الإنسانية.
يلخص زيمباردو نتائج تجربته في فكرة مؤداها أن البيئة، أو الأيديولوجيا، أو السلطة التي يعمل بمقتضاها الفرد ويمثلها، تلعب دورًا سيكولوجيًا (نفسيًا) في دفعه للقيام بأفعال عنيفة وغير أخلاقية
تجربة سجن ستانفورد
نشر فيليب زيمباردو مجريات هذه التجربة، وما أسفرت عنه من نتائج في كتاب عنوانه "تأثير الشيطان: كيف يتحول الأخيار إلى أشرار"، وقد عبّر زيمباردو عن دوافعه لإجراء هذه التجربة من خلال تساؤل رئيسي جعله مقدمة للكتاب في نسخته العربية، يقول: إن واحدة من الأسئلة التي لطالما أوقعتني في الحيرة منذ طفولتي هي كيف أمكن حدوث الهولوكوست في مجتمع مثقف ومتحضر، كما كان عليه الحال في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي؟
التجربة باختصار تحاول تحديد العوامل السياقية والظرفية التي تدفع الفرد السوي إلى الانخراط في ارتكاب الجرائم، وقد أُعد السجن في قبو في جامعة ستانفورد، وطلب زيمباردو من مجموعة من الأشخاص التطوع للعمل في هذه التجربة، وقد قبلوا ذلك، وتم التأكد من سلامة المشاركين من الناحية النفسية، والجسمية (أسوياء)، ثم بعد ذلك تم تقسيمهم إلى حراس وسجناء، وأعطى زيمباردو الحراس كامل الصلاحيات (السلطة المطلقة) في إدارة السجن كيفما يشاؤون، وحدد لهذه التجربة مدة زمنية هي أسبوعان.
ولكن ما حدث خلال التجربة دفع زيمباردو إلى إنهاء التجربة فورًا، وهو ما لم يتوقعه؛ حيث مارس الحراس أفعالًا مخلة ومسيئة بحق السجناء، حتى الذين أظهروا ترددًا في بادئ الأمر اضطروا تحت تأثير ما يسمى "بضغط الأقران" إلى مسايرة أقرانهم في نفس السلوك الإجرامي، وتحول السجن إلى بيئة منفرة، وظهر على بعض السجناء علامات الانهيار، والإرهاق النفسي.
توصل زيمباردو إلى أن البيئة الظرفية / النظام السائد هو الذي يهيئ الفرصة لظهور الأفعال الإجرامية، والمشينة؛ ففي التجربة السابقة استمد الحراس هذا السلوك العنيف من خلال المنظومة الحاضنة (إدارة السجن) التي أعطت لهم مطلق الصلاحيات في إخضاع السجناء، مع غياب عنصر المحاسبة، والمسؤولية، وعليه يلخص زيمباردو نتائج تجربته في فكرة مؤداها أن البيئة، أو الأيديولوجيا، أو السلطة التي يعمل بمقتضاها الفرد ويمثلها، تلعب دورًا سيكولوجيًا (نفسيًا) في دفعه للقيام بأفعال عنيفة وغير أخلاقية.
المعتقدات الحزبية، والطائفية، والدينية، التي قام النظام الأمني في سوريا الأسد بغرسها في نفوس وعقول مديري، وحراس السجون، مع غياب مبدأ المحاسبة؛ ساهمت في إيقاظ هذه الشرور التي لا يمكن تصورها لديهم
سجن صيدنايا
عزيزي القارئ، في هذا المحور سوف نقوم بعقد مقارنة بين ما حدث في تجربة ستانفورد (الإطار التفسيري)، وما تعرض له السجناء في سجن صيدنايا سيئ السمعة.
لقد رأينا جميعًا عبر شاشات التلفزة، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي الرجال والنساء والأطفال وهم يتدفقون من أروقة وأقبية سجن صيدنايا، وكأنهم قد بعثوا للتو من قبورهم، وتظهر على أجسادهم آثار التعذيب التي مارسها السجانون بحقهم، وما خلفته هذه الممارسات البشعة التي تنافي أبسط المبادئ والقيم الإنسانية من آثار نفسية وعقلية على معظم من كانوا داخل السجن.
وفي محاولة منا لمعرفة الدوافع الكامنة وراء هذا السلوك الإجرامي، استمعنا إلى شهادات بعض ممن خرجوا من هذا المسلخ البشري، ووجدنا أن هناك عاملًا مشتركًا بين هذه الشهادات؛ حيث أفاد السجناء بأن حراس السجن عندما يقومون بتعذيبهم، كانوا دائمًا يوجهون لهم عبارات من قبيل: أنتم إرهابيون! أنتم تريدون قتل أطفالنا! أنتم تنفذون أجندات أجنبية تهدف إلى تدمير سوريا.
إن هذه المعتقدات الحزبية، والطائفية، والدينية، التي قام النظام الأمني في سوريا الأسد بغرسها في نفوس وعقول مديري، وحراس السجون، مع غياب مبدأ المحاسبة؛ ساهمت في إيقاظ هذه الشرور التي لا يمكن تصورها لدى السجانين، فمع غياب المسؤولية المباشرة، وتبني أفكار متطرفة وفرتها البيئة الحاضنة (النظام الأمني الحاكم) يعتقد الجلّادون أن ما يقومون به جزءٌ لا يتجزأ من الأعمال الوطنية والقومية النبيلة، وهذا ما يُفسر لنا حالة الرضا التام لديهم عندما يذهبون إلى بيوتهم، ويتناول وجبة الغداء مع أفراد أسرهم، مطمئنين دون إحساس بتأنيب الضمير، أو حتى مجرد التفكير بما قد اقترفوه من فظائع مروعة تجاه السجناء.
إنهم يعتقدون أنهم يقومون بواجب أخلاقي تمليه عليه وطنيتهم، وانتماءاتهم الحزبية، والطائفية، وهذا يتشابه إلى حد كبير مع السلوك السادي الذي ارتكبه الحراس بحق السجناء في تجربة ستانفورد؛ حيث أعطيت لهم الحرية الكاملة في التعامل مع السجناء، مع التأكيد على عدم خضوعهم للمحاسبة.
لا شك أن المشهد في حالة سجن صيدنايا كان أكثر إيلامًا، وأشد هولًا؛ لأنه تضمن عوامل أيديولوجية، وفي ضوء ذلك يمكن القول إن المنظومة الأمنية في نظام الأسد قد تم تلقيحها بمعتقدات حزبية، وأيديولوجية، وطائفية متطرفة لعقود طويلة؛ فأنجبت أفرادًا ساديين، يتلذذون بممارسة التعذيب، ويجدون فيه متعة، ويتفاخرون بتصوير وتوثيق تلك المشاهد.
يمكن أن يظهر السلوك العدواني في أكثر أشكاله تطرفًا عندما تجتمع النزعة الفردية للشر، مع البيئة الحاضنة للعنف، وإدراك الفرد أنه لا مسؤولية تقع على عاتقه نتيجة هذه الأفعال
كيف نفهم طبيعة فعل الشر؟
إن ما يؤخذ على تجربة ستانفورد أن زيمباردو يعزو السلوكيات المنافية للأخلاق التي صدرت من الحراس إلى تأثير السياقات الظرفية (البيئة)، وهي التي يقع على عاتقها المسؤولية الكاملة في تحول الفرد للعنف.
في حين أننا لا يمكن أن نغفل النزعة الفطرية التي تميل للشر كسمة من سمات شخصية الفرد، وبالإمكان القول إن سلوك الشر هو محصلة تفاعلات بين عدة عوامل متمثلة في سمات الشخصية (الاستعداد الفطري)، والبيئة المحيطة (السياق الظرفي)، وغياب مبدأ المحاسبة.
ويمكن أن يظهر السلوك العدواني في أكثر أشكاله تطرفًا عندما تجتمع النزعة الفردية للشر، مع البيئة الحاضنة للعنف، وإدراك الفرد أنه لا مسؤولية تقع على عاتقه نتيجة هذه الأفعال، وقد يتخذ شكلًا آخر كأن يولد الإنسان ميالًا للخير، ولكن المؤثرات، والسياقات البيئية تقوم بعملها في طمس كل أوجه الخير في شخصيته، وتشويه هذه الفطرة النقية؛ فيتحول هذا الإنسان إلى كائن شرير، مدفوعًا برغبات عدوانية، وانتقامية. ونختم حديثنا بمقولة حول هذا المعنى للكاتب الإيطالي بريمو ليفي(ت:1987)، في وصيته الأخيرة عندما قال: "لا شك أن كل منا قد يصير وحشًا، وأن هذه إمكانية كامنة".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.