تناولنا في مقالنا السابق "من الركام إلى الأمل: خطوات نحو بناء سوريا الجديدة (1)" مقدمة عامة عن مرحلة ما بعد سقوط الأسد، وعن أهم الأسس التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار من أجل بناء سوريا الجديدة لكل أبنائها.
في مقالنا اليوم نتحدث بإذن الله عن واحد من أهم الأسس التي ستنهض بها سوريا الجديدة، وهو مسألة بناء ما يعرف بـ"السلام الإيجابي" (Positive Peace).
إن مفهوم "السلام الإيجابي" الذي طوره عالم السلام النرويجي يوهان غالتونغ في ستينيات القرن الماضي يعتبر أحد أهم الأسس في دراسات بناء السلام. يذهب هذا النموذج إلى التفريق بين السلام الإيجابي (Positive Peace) والسلام السلبي (Negative Peace)؛ فالسلام السلبي يشير إلى حالة غياب العنف المباشر، لكنه لا يعالج الأسباب الجذرية التي أدت إلى النزاع، أي إنه يمثل حالة هدوء مؤقت قد تعود فيها الصراعات لتشتعل لاحقًا كالنار تحت الرماد.
أما السلام الإيجابي فهو نموذج العمل الهادف إلى إيجاد أرضية سليمة وظروف عادلة تضمن الاستقرار على المدى الطويل.
المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية هما مصطلحان يرتبطان بعمليات إصلاح المجتمعات الخارجة من نزاعات عنيفة أو أنظمة استبدادية، لكنهما يختلفان من حيث الأهداف والأدوات
استنادًا إلى ذلك فإن مفهوم بناء السلام الإيجابي، هو مفهوم سياسي شديد التشعب، لأنه يتناول قضايا الأمن والعدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، وتعزيز الحكم الرشيد، واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز التعايش المجتمعي، وتحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وغيرها.
هذا يعني أن نموذج عمل السلام الإيجابي يحيل إلى إستراتيجية كبرى ومدروسة يكون تحقيق السلام فيها مركزيًّا، ولكنها بالمقابل تستعمل مروحة واسعة من الأدوات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية لتحقيق السلام، ومن ثم الحفاظ عليه بشكل مستدام خدمة للتنمية ولتحقيق الرفاه للجميع.
في هذا المقال، نتناول بإذن الله ملفين هامين من ملفات بناء السلام الإيجابي: المصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية.
أولًا: تعريف المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية
المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية هما مصطلحان يرتبطان بعمليات إصلاح المجتمعات الخارجة من نزاعات عنيفة أو أنظمة استبدادية، لكنهما يختلفان من حيث الأهداف والأدوات.
تُعرف المصالحة الوطنية بأنها عملية اجتماعية سياسية، تهدف إلى معالجة آثار النزاع وتحقيق التفاهم بين الأطراف المختلفة في المجتمع، بما يضمن عودة الثقة بين المواطنين والدولة من جهة، وبين مكونات المجتمع من جهة أخرى.
هذا يعني أن المصالحة الوطنية هي عملية تنظر إلى الأمام، وتركز على بناء المستقبل، وهي في سبيل ذلك تستخدم مجموعة متنوعة من الأدوات مثل الحوار الوطني، وبرامج المصالحة وبرامج التسامح والصفح، إضافة إلى تنظيم مراسم عامة أو فعاليات رمزية للتعبير عن الوحدة الوطنية والتسامح، مثل لقاءات مجتمعية وورش عمل تركز على بناء الثقة وتعزيز التفاهم.
في الجهة المقابلة، العدالة الانتقالية هي عملية سياسية وقانونية، تستخدم للتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة خلال النزاعات أو تحت الأنظمة الاستبدادية، وتهدف إلى تحقيق المساءلة القانونية وتعويض الضحايا.
بناء على ذلك فإن العدالة الانتقالية تتوجه بشكل أكبر إلى الماضي الثقيل لمعالجته؛ بهدف محاسبة مرتكبي الجرائم، وتحقيق العدالة للضحايا، ومنع تكرار التجرِبة المريرة، وتعزيز سيادة القانون والمؤسسات الجديدة في الدولة.
في سبيل ذلك تعتمد عملية العدالة الانتقالية على مجموعة من الأدوات القانونية والاجتماعية من مثل لجان التحقيق المجتمعية، والمحاكمات القضائية والتعويضات، ومعالجة ما يسمى بالذاكرة الجمعية.
من ذلك نستطيع أن نرى الارتباط الوثيق بين عملية المصالحة الوطنية من جهة والعدالة الانتقالية من جهة أخرى؛ فالعدالة الانتقالية بدون مصالحة وطنية ستؤدي إلى مزيد من التوترات التي ستعيد إنتاج الصراعات لاحقًا.
في سوريا، خلفت الحرب عشرات الآلاف من الانتهاكات والجرائم، وقد أصبح تحقيق العدالة والمصالحة تحديًا بالغ الصعوبة. لذلك فإننا نرى ضرورة الاستفادة من التجربة الرواندية لتصميم محاكم تكون مستوحاة من القيم المحلية والتقاليد السورية
أما المصالحة الوطنية بدون عدالة انتقالية فلن تستطيع أن تكون فعالة أو ذات جدوى حقيقية؛ لأنها تتجاهل محاسبة مرتكبي الجرائم، وتضعف بالتالي الثقة في الدولة ومؤسساتها. في المحصلة، هما عمليتان متكاملتان تمامًا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العدالة الانتقالية يجب أن توضع أساسًا في خدمة المصالحة الوطنية.
ثانيًا: بعض التجارب الدولية المهمة
الحالة السورية اليوم ليست جديدة على المجتمعات البشرية، فقد سبق مثلها الكثير من المجتمعات والبلدان التي عاشت تجارب مريرة نتيجة صراعات طائفية أو عرقية أو أنظمة حكم مستبدة، ومن ثم عاشت مرحلة الانتقال التي تعيشها سوريا اليوم، ووصلت في النهاية إلى الأهداف المنشودة من العدالة والتقدم والرفاهية. وحتى لا نغوص في التاريخ فإننا نستعرض تجارب حديثة في هذا الصدد تكللت بالكثير من النجاح؛ من أهمها تجربة جنوب أفريقيا وتجربة رواندا وتجربة أيرلندا.
في الحقيقة، الحالة السورية تتميز بتعقيدات فريدة تجعل من الصعب مطابقة أي تجربة أخرى معها تمامًا. مع ذلك، عند المقارنة، تبدو تجربة رواندا في المصالحة الوطنية هي الأقرب إلى السياق السوري، مع وجود بعض الجوانب الملائمة من التجربتين الأخريين.
في عام 1994، شهدت رواندا واحدة من أفظع جرائم الإبادة الجماعية في التاريخ الحديث، حيث قُتل ما يقارب ثمانمائة ألف شخص في غضون 100 يوم فقط. كانت هذه الإبادة نتيجة عقود من التوترات العرقية بين المجموعتين الرئيسيتين في رواندا، وهما الهوتو والتوتسي. انتهت الإبادة في يوليو/ تموز 1994، عندما سيطرت الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة بول كاغامي على البلاد وأطاحت بالحكومة.
بعد الإبادة، واجهت رواندا تحديات هائلة لتحقيق العدالة والمصالحة؛ فقد كان النظام القضائي الرسمي غير قادر على معالجة الحجم الكبير للجرائم والانتهاكات، التي شملت مئات الآلاف من المواطنين. في هذا السياق، قررت الحكومة الرواندية تبني نظام قضائي تقليدي يعرف باسم "غاكاكا"، وهو مستمد من التراث المحلي؛ لتسريع العدالة والمصالحة. آلية عمل هذه المحاكم اعتمدت على النقاط التالية:
- اعتمدت على المجتمع المحلي نفسه، حيث تم اختيار القضاة من بين الأشخاص المعروفين بالنزاهة والاحترام في كل منطقة.
- قسمت الجرائم إلى فئات حسب خطورتها؛ فالجرائم الكبرى مثل التخطيط للإبادة الجماعية، أو تنفيذ عمليات قتل جماعية، كانت تُحال إلى المحاكم الوطنية، أما الجرائم الأقل خطورة فكانت تُعالج بواسطة محاكم غاكاكا.
- كانت الجلسات تنعقد في الهواء الطلق، على العشب وتحت الأشجار، ما جعلها أكثر شفافية وقربًا من الناس.
- شُجّع المتهمون على الاعتراف بجرائمهم، وطلب الصفح من الضحايا وأسرهم. في المقابل، كان الاعتراف يعرضهم لأحكام مخففة، ويعزز فرص المصالحة مع المجتمع.
على الرغم من الانتقادات التي تم توجيهها لهذه المحاكم، لعدم قدرتها على توفير محاكمات عادلة تمامًا، نظرا لافتقارها إلى محامين ومراقبين محترفين، فإنها شكلت خيارًا واقعيًّا وضروريًّا في ظل حجم الجرائم وتعقيدات الوضع. أما بالنسبة لنتائج عملها فقد كانت مذهلة حقًّا.
بحلول عام 2012، كانت محاكم غاكاكا الرواندية قد نظرت في أكثر من مليوني قضية، مقارنة بعدد محدود جدًّا من القضايا التي كان يمكن للنظام القضائي الرسمي معالجتها. كما ساعدت هذه المحاكم على كسر دوامة الكراهية والانتقام من خلال التركيز على الاعتراف والتسامح، واستطاعت إعادة بناء الروابط الاجتماعية في القرى التي مزقتها الحرب، ما مكّن السكان من التعايش مجددًا.
وهنا لا ننسى أنها مثلت نظامًا قضائيًّا أقل كلفة من المحاكم الرسمية؛ حيث اعتمد على المجتمعات المحلية بدلًا من الموارد الحكومية المكلفة. في المحصلة كانت هذه المحاكم المحلية إحدى الدعائم الأساسية التي مكنت رواندا من النهوض مجددًا، لتصبح من أفضل بلدان أفريقيا وأكثرها تقدمًا وازدهارًا.
في سوريا، خلفت الحرب عشرات الآلاف من الانتهاكات والجرائم، وقد أصبح تحقيق العدالة والمصالحة تحديًا بالغ الصعوبة. لذلك فإننا نرى ضرورة الاستفادة من التجربة الرواندية لتصميم محاكم تكون مستوحاة من القيم المحلية والتقاليد السورية، بحيث تكون أكثر قربًا من الناس وأكثر تفهمًا لخصوصيات كل مجتمع.
مثل هذه المحاكم يجب أن يتم تصميمها بعناية لتجنب أخطاء المحاكمات العشوائية أو الانتقامية، ويجب أن تركز على المصالحة وليس الانتقام، من خلال تشجيع المتورطين على الاعتراف بجرائمهم وطلب الصفح.
يتبع في مقال قادم إن شاء الله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.