صاحب وجه جميل، ويتمتع بكاريزما عالية، توّجته لعبة الكريكيت بطلًا شعبيًا، فهو الأصلح لقيادة باكستان.. هذا ما كان يشيعه إعلام غربي عن عمران خان في بداية الألفية، كما أن معارضته القوية للهيمنة الغربية وللحرب على أفغانستان، وانتقاداته اللاذعة لسياسات الحكومات المتعاقبة، لا سيما ما يتعلق بكشمير، تمنحه شعبية متزايدة، وذلك عندما كان وحيدًا يمثل حزب الإنصاف في البرلمان.
أما مؤهلات عمران خان عند مؤسسات الحكم الباكستانية فتكمن في ليبراليته؛ فلا شبهة بالانتماء أو العلاقة بالجماعات والتنظيمات الإسلامية "المتطرفة"، ورجحةُ القبان أن زوجته الأولى من عائلة غولد سميث البريطانية ذات الأصول اليهودية، وله ولد من أم أميركية.
هذه الملَكات والكاريزما يمكن استثمارها بتقديم خان لترميم العلاقات مع الغرب، ووقفِ تدهورها مع الولايات المتحدة لأسباب جيوستراتيجية أهمها أفغانستان، وقد أسقطت واشنطن عن إسلام آباد صفة الحليف خارج حلف شمال الأطلسي، وبدأت تستعيد حقبة العقوبات ضدها، وأهمها الاقتصادية.
واشنطن ما لبثت أن تنصلت من اتفاق السرب الذي يتكون من 28 طائرة، ودخلت باكستان في ماراثون طويل لاستعادة ما دفعته مقدمًا، وحصلت عليه بعد عناء على شكل أقساط من زيت الصويا للطعام
الوجه الحسن
لم يكن عمران خان وحده صاحب كاريزما براقة للغرب، فبمجرد أن غاب ضياء الحق "الرجل القوي" فجأة عام 1988، بدأ سؤال كبير يتردد عن وجهة باكستان السياسية، لا سيما في ظل عواطف شعبية عارمة، ولّدها الجهاد الأفغاني ضد الاجتياح السوفياتي، وعززت مكانة الأحزاب والحركات الإسلامية الداعمة له.
وساد شعور واسع بين النخب السياسية في الغرب وباكستان بأن أي انتخابات نزيهة سوف تأتي بالأحزاب الإسلامية، وأن وصولها إلى السلطة يهدد العلاقات الوطيدة مع الولايات المتحدة والغرب، تلك العلاقات التي ازدهرت في ظل الحرب الباردة، وبلغت ذروتها في مواجهة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان.
وما هي إلا أسابيع حتى عادت الفتاة الجميلة بينظير بوتو من المنفى إلى باكستان، وبقدرة قادر أسقطت عنها التهم، وحصلت على ضمانات بعدم الاعتقال.
تأهلت ابنة اليساري السابق ذو الفقار علي بوتو للانتخابات في حملة دعائية واسعة، وفازت، وكان عليها رد الجميل للمؤسسة التي حكمت على أبيها بالإعدام، وفرشت لها الطريق لكي تتولى رئاسة الحكومة، وذلك بالتوجه إلى واشنطن لتأمين صفقة طائرات إف- 16، مع دفع جزء من ثمنها مقدمًا، الطائرات التي يرسمها الباكستانيون على الحافلات والشاحنات التي تتحرك على الطرق الخارجية، وعلى جدران منازلهم، باعتبارها إحدى عناصر التفوق العسكري على الهند.
لكن واشنطن ما لبثت أن تنصلت من اتفاق السرب الذي يتكون من 28 طائرة، ودخلت باكستان في ماراثون طويل لاستعادة ما دفعته مقدمًا، وحصلت عليه بعد عناء على شكل أقساط من زيت الصويا للطعام.
لكن لا مثيل لها (كما تقتضي ترجمة الاسم للعربية) في فشلها بتنفيذ الصفقة، وفي إقناع الإدارة الأميركية بالعدول عن العقوبات الاقتصادية على خلفية البرنامج النووي، وهو ما زاد من الأعباء الاقتصادية للبلاد، وانتهت حقبتها الأولى على يد الرئيس غلام إسحاق خان متكئًا على صلاحياته الدستورية.
ظهر نجم آخر أصلع، لكنه حَسين وجه بالنسبة لدولة عربية حليفة تاريخيًا لم تقع في عشق غريمته، إنه نواز شريف الذي أمن مساعدات خليجية مفتوحة تحول دون إفلاس البلاد.. وتعاقب شريف وبوتو مرتين لكل منهما وفق ما تقتضيه سياسة البلاد الخارجية، وجاء انقلاب الجنرال برويز مشرف، وذلك بعد عودة غير مظفرة لشريف من واشنطن، سعى فيها لإقناع بيل كلينتون بموقف باكستان من حرب محدودة مع الهند في قطاع كارغيل شمال كشمير.
زكّى الجنرال زيني، قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي، صديقه مشرف، وشهد للكونغرس بأنه ضمان لمصالح أميركا في جنوبي آسيا، وأجازت المحكمة الدستورية حكمه للضرورة ثلاث سنوات بالبزة العسكرية، ثم شُرعن الحكم بانتخابات، فدام حكمه أكثر من ثمانية أعوام.
اتهم خان أميركا بالوقوف وراء الإطاحة به، وأبدى إصرارًا غير معهود من ساسة باكستان في مواجهة كل أجنحة السلطة على مدى ثلاث سنوات، مقارنة بعائلتي شريف وبوتو اللتين تلجأان إلى صفقات عند كل أزمة تهدد وضعهما السياسي
تحدٍّ غير عادي
لن نتوقف كثيرًا عند عودة آل بوتو عبر زرداري، الذي رفع شعبيته اغتيال زوجته، ووصل عمران خان إلى السلطة عام 2018 عبر صندوق الاقتراع، وما لبث أن اكتشف أن المناورة السياسية في السلطة تختلف كثيرًا عن مناورات الكريكيت، وبدأ مواجهة تحديات إصلاح الاقتصاد، والقضاء على الفساد الذي ورثه من خصومه السياسيين المتربصين به، ذلك في مضمار السياسة الداخلية.
ولعل حظه السيئ كان بتزامن زيارته الرسمية إلى روسيا مع هجومها على أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، وهي أول زيارة يقوم بها زعيم باكستاني منذ أكثر من عقدين لأحد قطبي الحرب الباردة، الذي وقفت ضده باكستان بتحالف مع الغرب.
وبدت الزيارة تحديًا للغرب، حيث تحدثت الصحافة الباكستانية عن ممارسة الولايات المتحدة ضغوطًا على خان لثنيه عن الزيارة، وظهر ذلك بقوله للسفراء الغربيين في باكستان "هل تعتقدون أننا عبيد لكم؟!"، وذلك في رده على طلبهم إدانة هجوم روسيا على أوكرانيا، وطالبهم باتخاذ الموقف ذاته من الهند في كشمير.
لم تعد اللغة الشعبوية مفيدة لإرضاء أميركا، وتقمص شخصية مهاتير محمد يثير آخرين،، وفي المقابل فات أوان الانقلابات العسكرية الصاخبة في باكستان، فكان لا بد من انقلاب برلماني يعززه انقلاب قضائي.
اتهم خان أميركا بالوقوف وراء الإطاحة به، وأبدى إصرارًا غير معهود من ساسة باكستان في مواجهة كل أجنحة السلطة على مدى ثلاث سنوات، مقارنة بعائلتي شريف وبوتو اللتين تلجأان إلى صفقات عند كل أزمة تهدد وضعهما السياسي.
أصيب خان بالرصاص، وأدين بتهم فساد، ودخل السجن، وتعرض مساعدوه إلى ابتزاز قاسٍ، ولعل سر ثباته أنه يستند إلى محيط جماهيري يقر له بالسلطة الشرعية، ولا يرى في اتفاق عائلتي شريف وبوتو الحالي إلا مباركة خارجية.
وبغض النظر عن سعر الروبية والتضخم الذي يصاحب انهيارها مع كل أزمة، يبدو أن الباكستانيين أدمنوا أزمات ساستهم، وهُم – مثلي ومثلكم- سيبقون ردحًا من الزمن يضربون أخماسًا بأسداس، إلى أن تستقر موازين القوى العالمية على حرب باردة جديدة، أو حرب عالمية لا نعرف أين ستقف منها الدولة التاسعة نوويًّا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.