عنوان هذا المقال مستوحى من مقال لروني براومان أحد أعمدة "أطباء بلا حدود"، كتبه في صحيفة ليبراسيون عام 1993، تحت عنوان: "العمل الإنساني، الاسم الحديث للجبن". كتب يومها بنفس إنساني، يتحدث عن أزمة البوسنة: "وراء أدويتنا وقوافلنا الإنسانية، تتشكل اليوم دولة عنصرية في أوروبا. بما أن عملية تطهير عرقي مخطط لها، قد تحققت".. كان حديثه مستوحى مما عاشته البوسنة من عمليات تطهير وإبادة.
حالما انتهت المأساة، وقف المفكّر الكبير علي عزت بيغوفيتش، الرئيس الأول للبوسنة والهرسك، يخطب في مناسبة تأسيس حزب العمل الديمقراطي الذي جاء به إلى رئاسة البوسنة، قائلًا: "إن المحاولة الكبرى لخلق جنة على الأرض بدون إله وبدون إنسان، وبالتأكيد ضد الله وضد الإنسان معًا.. هذه المحاولة قد انتهت إلى غير رجعة بفشل كامل".
انفجرت يومها القاعة بتصفيق حاد طويل، وعبر الناس عن مشاعر الغبطة بدموع الفرح بنهاية حقبة من الأهوال والإبادة واللاإنسانية.. لا شك أنها كانت لحظات فرح مستحقة، بالنظر إلى السياق الخاص الذي ولدت فيه، وبالنظر إلى التخلص من الحكم الشيوعي الذي "أراد أن يقيم جنة على الأرض بدون إله".
لكننا نتساءل اليوم في ضوء ما نعيشه من أحداث: هل انتهت إلى غير رجعة المآسي الإنسانية؟ هل انتهت بفشل كامل محاولات خلق جنة بدون إله وبدون إنسان؟ بما هو "الله" و"الإنسان" منظومة أخلاقية متكاملة منضبطة لمعايير الخير والشر، ساعية لتحقيق أفضل شروط سعادة الإنسان وفاعليته.
استمرت الحرب في يوغسلافيا السابقة من عام 1991 حتى نوفمبر/ تشرين الثاني 1995، وتوفي أكثر من مائة ألف مدني، دُمِّرت بلدات وقرى، وشُرِّد الملايين، وارتكبت جرائم حرب؛ اغتصاب وتطهير عرقي وإبادة جماعية
غير بعيد عما تثيره هذه التساؤلات من إشكالات فلسفية، يحاول هذا المقال الوقوف على بعض ملامح التجربة الإنسانية للبوسنة، من خلال التذكير بمواقف "الفاعل الإنساني" خلالها والتفاعل معها.
هذا الفاعل الذي يفترض أنه "ضمير" العالم، ومظهر إنسانيته، ومجال إجماعه، والذي من المثير لمشاعر الأسى والحسرة أنه يثبت، عبر الأزمنة وتوالي أحداث الإبادة والاعتداءات، أنه ما يزال مكبلًا بشروط ذاتية وموضوعية، لا تمكنه من أن يتزحزح لحظة عما رُسم له من هامش "تهوية" المجالات المخنوقة، و"إطفاء الحرائق" بعبارة الكبير هاني البنا، حفظه الله.
استمرت الحرب في يوغسلافيا السابقة من عام 1991 حتى نوفمبر/ تشرين الثاني 1995، وتوفي أكثر من مائة ألف مدني، دُمِّرت بلدات وقرى، وشُرِّد الملايين، وارتكبت جرائم حرب؛ اغتصاب وتطهير عرقي وإبادة جماعية.
كانت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تقود أكبر عملية إغاثة في العالم، وكان لدى الأمم المتحدة ثلاثون ألف جندي للحفاظ على السلام.
في أبريل/ نيسان 1992، أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها؛ فبدأت القوات الصربية حملة تطهير عرقي واغتصاب وإرهاب، ما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف وتشريد ما يقرب من 2.6 مليون بوسني، وجمع البوسنيين في معسكرات اعتقال.
فقد الغربُ ادعاءه بالاهتمام عبر ردّ فعله الضعيف، وتوسعت الفجوة بين تصريحاته وأفعاله. لم يفت الحكيم نعوم تشومسكي إدانة هذا التجاهل ووضع أصبعه على الجرح تمامًا، بقوله: إن "العدوان على البوسنة كان مثالًا مأساويًّا لإمكانية تجاهل القوى الكبرى المعاناة الإنسانية عندما لا تتوافق مع مصالحها الجيوسياسية".
دعنا نقول بوضوح إن الدين بكل تأكيد على رأس معايير "المصالح الجيوسياسية"؛ فالتعامل مع المناطق المسلمة غير التعامل مع غيرها. هذا الوعي، أكده مجرم حرب مدان هو رادوفان كراجيتش، الذي أدين في 24 مارس/ آذار 2016 بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، من قبل المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة. وحكم عليه بالسجن 40 عامًا في عام 2016، وتم تشديد الحكم إلى السجن مدى الحياة في عام 2019.
وهو في مقابلة صحفية، موثقة في كتاب "حملة الحمقى: يوغسلافيا، الناتو، وأوهام الغرب" لمؤلفه "ديك جونستون"، صرح قائلًا:"إن ما نفعله هنا هو دفاع عن وطننا، نحن نقاتل من أجل بقاء صرب البوسنة، ونمنع إنشاء دولة إسلامية في قلب أوروبا".
في حين كان مسلمو البوسنة يفضلون المساعدة العسكرية للبقاء على قيد الحياة، قرر مجلس الأمن والدول الغربية أن يتم إطعامهم
كيف كان حينها سلوك الفاعل الإنساني؟. على مستوى الأفراد، وكما هو الحال خلال جميع الأزمات الإنسانية، لا يخلو تاريخ العمل الإنساني من مواقف فردية إنسانية رائعة!. نشر روي جوتمان منNewsday سلسلة مقالات في يوليو/ تموز وأغسطس/ آب 1993، تتضمن صورًا مرعبة للبوسنيين المنهكين يختبئون وراء سياج الأسلاك الشائكة، فاز على إثرها بجائزة بوليتزر لتقاريره، وهي صور ومعلومات أعطاها له عامل إنساني موظف باللجنة الدولية للصليب الأحمر، أراد فضح الأزمة دون المساس بحيادية اللجنة.
أما على المستوى الرسمي المؤسساتي، فمبدأ الحياد وعدم التحيز يكون غالبًا مرادفًا للصمت وعدم التدخل، إلا في حالة الضجة الإعلامية والانكشاف التام، وتبدي بعض المصالح الجيوسياسية للدول الغربية.
في حالة البوسنة، كان انتشار خبر الإبادة مؤثرًا، حيث رغبت الأمم المتحدة في التصرف، بل إن "المصالح الجيوسياسية" دفعت الدول الغربية إلى تفعيل واجب "المساعدة الإنسانية في حالات الكوارث الطبيعية وحالات الطوارئ القصوى".
وفي حين كان مسلمو البوسنة يفضلون المساعدة العسكرية للبقاء على قيد الحياة، قرر مجلس الأمن والدول الغربية أن يتم إطعامهم.. لخص أحد العاملين في منظمة أطباء بلا حدود الأمر بقوله: "تم إعلام قوات الأمم المتحدة بحماية إمدادات المساعدات، ولكن تم منعهم من استخدام القوة لحماية الناس".
ولك أن تقارن بين هذا الوضع، الذي – رغم كل آلامه- عرف تفعيل واجب "المساعدة الإنسانية في حالات الكوارث الطبيعية وحالات الطوارئ القصوى"، ومتابعة مجرمي حرب في محكمة العدل الدولية، وإنفاذ عقوبات في حقهم، وانتهى بإقامة دولة البوسنة والهرسك.. وبين وضع غزة اليوم، التي لا تُطعَم ولا تُمنع من قتل وإبادة، ولا توعد دولتها باستقلال ولا سيادة ولا أرض ولا عودة شعب!
استنتجت وكالات إغاثة عديدة أن العمل الإنساني أصبح حجة لتبرير تقاعس الغرب، وأنه مجرد وسيلة لتخفيف الضغط، وأن مبادئه مجرد صفة حديثة للجبن كما أشار لروني براومان
كانت نتيجة التهاون في حماية البوسنة فظائع إنسانية مثل إبادة سربرنيتسا في يوليو/ تموز 1995، حيث قتل أكثر من 8,000 رجل وصبي بوسني مسلم على يد قوات صرب البوسنة بقيادة راتكو ملاديتش.
كانت جريمة أكثر فظاعة لأنها وقعت على الرغم من وجود قوات حفظ السلام الهولندية التابعة للأمم المتحدة في المنطقة. كان ملاك الإنسانية الحارس، يثبت أن الخطأ ليس في نوايا الإنسانية بل في مواقف الحياد القاتل، بل – في حالة سربرنيتسا- في مواقف التواطؤ الصارخ، بفسح المجال للمعتدي.
يومها، استنتجت وكالات إغاثة عديدة أن العمل الإنساني أصبح حجة لتبرير تقاعس الغرب، وأنه مجرد وسيلة لتخفيف الضغط، وأن مبادئه مجرد صفة حديثة للجبن، كما أشار لروني براومان.
وتُثبت أحداث الإبادة الجارية في غزة اليوم، والصمت المطبق أمام العربدة التي أصبحت لا تحتاج إلى دليل، والمجاعة الموثقة والمقصودة، واستهداف المدنيين، أن دعاوى الإنسانية والمنتظم الدولي، وإرادة السلام، وحفظ الحياة البشرية، ليست سوى شعارات، وأن مبادئ الحياد وعدم التحيز والاستقلالية – بالرغم من أهميتها نظريًا- غالبًا ما تصبح مرادفًا للجُبْن في سياقات مثل هذه التي نعايشها، إن لم تعنِ التواطؤ.
كما يعني ذلك أن المؤسسات الإنسانية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، من حيثُ نشأتها والمتاح لها من أطر قانونية ودعم، وقدرة على التنفيذ والمبادرة، عاجزة عن ضمان العدالة، نصرة للمظلوم وانتصافًا من المنتهك، وأنها خاضعة لإرادة الدول العظمى، وعلى الأخص أميركا.
أما حين يتعلق الأمر بمسلمين، فإن هذه المؤسسات الإنسانية ومبادئها، مجرد شعارات ووسائل لتهوية المناطق المخنوقة، التي لم تعد كل أنابيب التصريحات والشعارات كافية لتهويتها، ودعاواها بالحياد وعدم التحيز والاستقلالية هي أقرب إلى الجبن والعجز منها إلى ما أنشئت لأجله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.