يتكشف المشهد بفظاعته وهوله.. بل ببعضٍ من فظاعته وهوله، فنكتشف كم كانت الكلمات ضئيلة والمعاني قاصرة في تصوير حقيقة ما كان يجري.
هنا سوريا.. البلد الذي امتزجت لدى أهله مشاعر متناقضة، فالفرح جاور الأحزان، والأمل انبثق من الألم، والأسى لرؤية ما حل بالبلاد تزاحمه نظرة متفائلة بغدٍ مشرق.. مشاعر الخلاص من الكابوس عذبة، ولكن كلفة ذلك كانت جد عالية.
لقد فكر حافظ وقدَّر، فقُتل كيف قدر، خطط لدولة يستبد بحكمها، لا يُعارَض فيها رأيه، ولا يُرد قوله، دولة يريد لأهلها أن يكونوا له مصفقين، ولفعله ممجدين، وبخطواته مرحبين!
هي حكاية بلد خرج من أسْرٍ طال عقودًا من الزمن تجاوزت نصف قرن؛ ومع زوال حقبة الظلم والظلام، وافتضاح مزيد من ممارساتها القذرة، صرنا نتساءل، ومعنا يتساءل العالم: لِمَ كل هذه السجون؟ ما الدافع لكل هذا الإجرام؟ وأي غاية سعى إليها رأس البغي؟!. وأمام هذه الأسئلة الحائرة تتضافر الروايات على القول إنها سياسةُ طاغيةٍ يزرع الخوف ليجني السلطة، ويثير الرعب في المجتمع ليُحكم قبضته على الدولة.
سياسة أسسها الوالد، وتبعه فيها الولد، فكان حافظ في البغي أستاذًا، وعلى نهجه سار من بعده بشار.. وكما أن لإبليس جنده، اصطنع هذان لهما جندًا وأتباعًا.
لقد فكر حافظ وقدَّر، فقُتل كيف قدر، خطط لدولة يستبد بحكمها، لا يُعارَض فيها رأيه، ولا يُرد قوله، دولة يريد لأهلها أن يكونوا له مصفقين، ولفعله ممجدين، وبخطواته مرحبين!. ومع هذه العقلية التي انتهجها، كان لا بد من وقوع صدام حتمي مع أصحاب الكلمة الحرة والرأي الحر، وكان ذلك إيذانًا بحلول عصر استبداد، فيه تُخنق الكلمة الحرة ما لم ترُق للحاكم، ويحاصَر الرأي المخلص إذا لم يوافق هواه، ويحارَب الفعل البنّاء إن لم يسر في ركابه؛ وبذلك يخسر الوطن من عقول وطاقات أبنائه ما غُيِّب في السجون، أو فرّ من البطش إلى المنافي، أو حتى ما بقي سائرًا بين الناس لكنه بقي مكبوتًا مكتومًا..
هي حالة أسس لها حافظ وواصل السير فيها بشار، وهي حالة تتجاوز الوصف بأنها فساد الحاكم، إذ تصل حد كونها إفسادًا خطيرًا يضر بالمجتمع، ويدمر البلاد.
وفي هذه الأجواء ووسط تلك البيئة، يتشكل حول المستبد جيش من المتملقين والمتلونين، وسواء تم ذلك بإيحاء منه وتوجيه، أم إن أولئك قدّموا أنفسهم بعدما وجدوا سلعتهم رائجة وتجاربهم رابحة، فإن الضرر واقع والخطر ماحق، إذ يدفع أولئك إلى نهج يُختزل فيه الوطن في صورة الحاكم، فيُصوَّر الأخير على أنه باني الوطن وحاميه وراعيه، ورائد كل نجاح فيه، لتحمل اسمه الشوارع والساحات، والمرافق والمنشآت، بل يغدو اسم الحاكم قرين اسم وطن بأسره، وتنصب له التماثيل في الميادين، وتُخلع عليه ألقاب التفخيم والتمجيد، ويتبارى الوصوليون وأهل الفن في التغني بـ "خصال القائد"، والإشادة بـ "عظيم إنجازاته".
أي جريمة أكبر من أن تتحول مؤسسة الجيش التي استهلكت الأموال الطائلة من قوت الشعب إلى عصابة تفتك بالشعب، وتمارس بحقه الفظائع؟
وإزاء ذلك كلّه يحظر على المواطن أن يكون إلا موافقًا على ما يقال، يأخذه بالتسليم دون نقاش أو جدال، وهو مطالَب بأن يعيد في المسيرات الهتاف، ويردد في المناسبات ما يُسوَّق من شعارات لا تعدو كونها جعجعة بلا طِحن، ليتحول الناس إلى جوقة تمجيد لـ "قائد الوطن".. وبالوصول إلى هذا الدرك لا يبقى الخطر محصورًا في فساد الحاكم، بل يتعداه إلى إفساد واسع، فيه تقزيم للمواطن وتشويه للوطن.
وفي ظل حكم الطاغية، نشأت مؤسسات ترعى الجريمة، وأوكار يتخرج فيها المجرمون.. وأي جريمة أكبر من أن تتحول مؤسسة الجيش التي استهلكت الأموال الطائلة من قوت الشعب إلى عصابة تفتك بالشعب، وتمارس بحقه الفظائع؟.
هو الجيش الذي أتخمنا بشعارات عن الإعداد لتحرير الأرض وصون العِرض، ثم لما كانت تأتيه ضربات صهيونية مهينة متتابعة كان يقابلها بإعلان احتفاظه بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين، لكنه حينما انتفض السوريون غيرةً لحقهم وكرامتهم لم يؤجل الرد ولم يسوِّف، وسريعًا قابل انتفاضتهم بالحديد والنار والبراميل المتفجرة، لا بل إنه فوق ذلك استنفر شُذّاذ الآفاق وقذارات الأرض، ليكونوا عونًا له في تنفيذ جريمته.
أي جريمة أفظع من أن نجد مؤسسات تسمى أمنية قد غدت عناوين للخوف والرعب، في أفرعها تُرتكب فظائع الموبقات، وفي سجونها تمارس عصابة من أقذر المخلوقات ما لا يكاد يتصوره العقل من ألوان الإجرام الذي تستحيي حتى البهائم أن تأتي بمثله.. وستبقى الزنازين وأقبية السجون شاهدة على ما أخرجه الحقد الأسود، الذي حملته صدور أعداء الإنسانية، وستبقى الروايات التي تحكي ما فعلوه لعنة أجيال تلاحقهم في الحياة وبعد الممات.
ولئن كان الوجود الأبرز للعناصر الآثمة في هاتين المؤسستين، فإن ذلك لا ينفي وجودها في أماكن أخرى تبعًا لما يقتضيه تنفيذ سياسة الطاغية، وانتشار عصابته التي بها يتسع الفساد، ويعظم الإفساد.
الحقيقة أيضًا أن سوريا كانت عبر تاريخها رائدة صلاح وإصلاح، ولئن حكمها المفسدون حينًا من الدهر، كُمَّت فيه الأفواه وقُيِّد فيه المصلحون، فإن حكم أولئك كان طارئًا وهو إلى زوال
وفي ظل حكم الطاغية كان التوظيف الدنيء لضعاف النفوس في الوشاية؛ وهؤلاء موجودون في كل عصر ومصر، لكنهم إذا حكمت دولة العدل خنسوا، وإذا حكم الفاسدون انتفشوا، وقد نفشهم نظام "الأسد" ليكونوا عيونًا له بين الناس وآذانًا، يتلقفون من كل إنسان وفي كل مكان أية إشارة يُستشف منها احتمال أن تشكل ولو أدنى خطر على العصابة التي تحكم البلد، فيوصلوا الصورة والكلمة إلى مشغِّليهم الأبالسة، ليتبع ذلك اعتقال الموشى به وتغييبه في الزنازين والسجون، لتُحرم عائلته حتى من مجرد معرفة مصيره ومكانه، فتتضاعف المرارة، ويمتد الألم.
وكم من عائلات وأمهات وأُسر تجرعت المآسي والآلام بفعل أولئك الخبثاء، الذين تنصلوا من الدين، وتنكروا للأخلاق، وأماتوا في أنفسهم رادع العاطفة، فصاروا خطرًا وبيلًا ربما حتى على أقرب أقربائهم.
لأجل ذلك كله، ومعه أشياء أخرى من جنسه، أجد أن من تقزيم الحقيقة وصف النظام المخلوع في سوريا بأنه نظام فاسد؛ فالفساد يرحل برحيل صاحبه، لكن ما أحدثه ذلك النظام قد تجاوز ذلك، فهو نظام مفسد موغلٌ في الإفساد، ربّى ورعى فئة من الفاسدين، جعلها أذرعًا خبيثة تعمل بإمرته ولصالحه، وزرع في المجتمع أمراضًا وآفات، وأحدث فيه شروخًا اجتماعية لها تأثيرها التخريبي.. لكن الحقيقة لا تنتهي هنا.
الحقيقة فيها أيضًا أن سوريا كانت عبر تاريخها رائدة صلاح وإصلاح، ولئن حكمها المفسدون حينًا من الدهر، كُمَّت فيه الأفواه وقُيِّد فيه المصلحون، فإن حكم أولئك كان طارئًا وهو إلى زوال.
وفي سوريا تتألق دمشق التي تفخر بتاريخ صالحيها ومصلحيها، هي دمشق عمر بن عبدالعزيز، ونور الدين زنكي، دمشق الغزالي، وابن تيمية، وشمس الدين الذهبي، دمشق الإمام النووي، والعز بن عبدالسلام وبدر الدين الحسني وعلي الطنطاوي وكثيرين غيرهم.. وسِيَر هؤلاء ما زالت حيَّة في ذاكرة المدينة وأهلها.
ألا وإن طبيعة الانتفاضة التي قامت في سوريا على الطغيان تبشر بمستقبل مشرق قادم إلى البلاد ليعانق تاريخها العريق.. مستقبل يكنس فيه مصلحو البلاد كل ما كان من فساد وإفساد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.