مع إعلان هروب بشار الأسد من سوريا بعد أربعةٍ وعشرين عامًا قضاها مغتصبًا للسلطة، التي استولى عليها بطريقة وراثية مخالفة للنظام الجمهوري في سوريا، عمت الأفراح في الداخل السوري وخارجه.. احتفل الحالمون بالنصر، ونزلوا إلى الشوارع معلنين انتصار الثورة التي انطلقت في مارس/ آذار 2011.
ومع ذلك، يبرز سؤالٌ جوهري: هل حققت الثورة السورية أهدافها بمجرد هروب الأسد وإسقاط نظام البعث؟
يبدو أن الثورة السورية لم تحقق أهدافها بإسقاط نظام بشار الأسد، بل إنها حتى لم تتجاوز الخطوة الأولى في مسار تحقيق تلك الأهداف
أهداف ثورة 2011
عندما انتفض الشعب السوري عن بكرة أبيه في العام 2011 ضد نظام الأسد، تركزت المطالب على الحرية والكرامة والعدالة، ومحاربة الفساد والمحسوبيات. على عكس العديد من ثورات العالم التي تركزت على الجوع والفقر، جاءت الثورة السورية بمطالب سياسية وقانونية ودستورية، تهدف إلى رفعة الوطن والمواطن.
في البداية، لم يطالب الشعب السوري بإسقاط النظام، بل كان شعاره: "الشعب يريد إصلاح النظام". لكن مع إصرار النظام على استخدام القمع المفرط والعنف، تغير الشعار إلى "الشعب يريد إسقاط النظام". ومع تصاعد المواجهة، انتقلت الثورة من سلمية إلى مسلحة، كرد فعل طبيعي على إجرام النظام.
في البداية، تشكلت "حركة الضباط الأحرار"، التي أصبحت نواة لتشكيل الجيش السوري الحر، المكون من ضباط وعناصر منشقين عن جيش الأسد، إلى جانب مدنيين انضموا للدفاع عن مدنهم وقراهم وأحلامهم.
لكن مع تقدم الجيش الحر والسيطرة على مساحات شاسعة، تدخلت قوى إقليمية ودولية لدعم الأسد، مثل إيران وأذرعها، وعلى رأسها حزب الله اللبناني، كما تدخلت روسيا بعتادها وطيرانها الحديث، ما حول سوريا إلى ساحة صراع مفتوح بين أصحاب الأرض والمحتلين، بقيادة رئيسٍ مستبد استعان بكل الطغاة والقتلة ليبقى في السلطة.
ومع مرور السنوات، كانت نتيجة هذه الحرب الضروس مأساوية، إذ خلفت ملايين اللاجئين والنازحين في الداخل السوري وخارجه، ومليون شهيد سوري، ومئات الآلاف من المعتقلين والمختفين قسريًّا، كما دُمرت المدن الكبرى والبلدات والقرى على رؤوس ساكنيها.
وبالمحصلة، أدى كل ذلك إلى انهيار الاقتصاد السوري بشكل مروع، وانهيار المؤسسات والبنية التحتية، وفقدان الخدمات الأساسية للمواطنين، مثل المشتقات النفطية والكهرباء والمياه والخبز، وغيرها من أساسيات الحياة.
إلى جانب كل ذلك، دخلت دول إلى الساحة، وقامت بإنشاء قواعد عسكرية، وانتشر السلاح والفصائل والمليشيات المتعددة. وتم تقسيم الخريطة السورية إلى مناطق نفوذ تخضع لسيطرة تلك الدول والمليشيات والفصائل المتصارعة على الجسد السوري. وكانت النتيجة وجود أربع حكومات تدير كل منها منطقة:
- الحكومة المؤقتة في الشمال السوري، التابعة للجيش الوطني.
- حكومة الإنقاذ في إدلب، التابعة لهيئة تحرير الشام.
- حكومة الإدارة الذاتية في شمالي وشرقي سوريا، التابعة لقوات سوريا الديمقراطية.
- حكومة دمشق التابعة لنظام بشار الأسد.
عند النظر إلى هذا الوضع، نرى أن المعارضة وصلت إلى حكم سوريا، وهي منهارة وغارقة في الفوضى. ويبدو أن الثورة السورية لم تحقق أهدافها بإسقاط نظام بشار الأسد، بل إنها حتى لم تتجاوز الخطوة الأولى في مسار تحقيق تلك الأهداف.
ورغم كل التضحيات التي قدمها الشعب السوري، فإن الخطوات القادمة تبدو أكثر تعقيدًا وصعوبة، في ظل تشابك الخيوط وتعقد المشهد إلى حد كبير.
رغم تحفظ وامتعاض كثيرين على تسمية البشير، فإن الحكومة الجديدة يجب أن تبتعد عن المحاصصة الدينية والمذهبية والمناطقية والحزبية، بل يجب أن تكون حكومة اختصاص (تكنوقراط)
الخطوات التالية
حتى يكتمل النصر، وتحقق الثورة السورية كامل أهدافها، يجب العمل على إعادة إعمار سوريا من جميع النواحي: إعماريًا بترميم المدن والبنى التحتية، واقتصاديًا بإعادة تشغيل عجلة الإنتاج وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وخدميًا بتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، وعدليًًا بتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم.
كل ذلك يبدأ من تشكيل حكومة انتقالية، وهذا ما أقدم عليه أحمد الشرع، القائد العام للإدارة السورية الجديدة، عندما سمى رئيس حكومته "الإنقاذ" محمد البشير لتشكيل حكومة جديدة. ورغم تحفظ وامتعاض كثيرين على تسمية البشير، فإن الحكومة الجديدة يجب أن تبتعد عن المحاصصة الدينية والمذهبية والمناطقية والحزبية، بل يجب أن تكون حكومة اختصاص (تكنوقراط)، تُعلي مصلحة الشعب والوطن، وإلا فإن سوريا ستنحدر نحو الهاوية أكثر فأكثر.
يجب حل المؤسسات الموازية، وإنهاء عمل الحكومات المتعددة والمؤسسات ذات الصلة، مثل الائتلاف وهيئة التفاوض وغيرها، والبدء بمشاورات سياسية شاملة من خلال حوار سياسي عالي المستوى بين جميع المكونات السورية
الوضع الراهن
مع وجود هذه الملفات الصعبة والمعقدة، والتحديات الكبيرة جدًا، هناك حاجة ماسَّة إلى كفاءات بصلاحيات واسعة وإمكانات أكبر، لتتمكن من إخراج سوريا من عنق الزجاجة، وإيقاف الانهيار المتسارع في مختلف المجالات، خاصة أن دولة الاحتلال الإسرائيلي استغلت الفوضى واحتلت المزيد من الأراضي السورية، ولم تتوقف عن قصف الأهداف في كل شبر من سوريا، وكأنها تعاقب الشعب السوري على هروب الأسد، الذي ظل حاميًا لمصالحها لعقود طويلة.
الأولوية الضرورية إعادة هيكلة المؤسسات: إعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية لفرض الأمن والاستقرار في البلاد، ومنع الفوضى التي تصاحب الفترات الانتقالية في مثل هذه الحالات، وحل الفصائل والمليشيات المسلحة، وتسليم السلاح إلى الجيش الجديد، وحصر السلاح بيد الدولة فقط، واستدعاء الضباط المنشقين للعودة إلى الخدمة.
ويجب حل المؤسسات الموازية، وإنهاء عمل الحكومات المتعددة والمؤسسات ذات الصلة، مثل الائتلاف وهيئة التفاوض وغيرها، والبدء بمشاورات سياسية شاملة من خلال حوار سياسي عالي المستوى بين جميع المكونات السورية؛ لصياغة دستور حضاري يحفظ حقوق الجميع، ويضمن مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات.
ولا بد من تغيير النهج، وإدراك قاعدة أساسية.. أن العقل الذي يدير المعركة العسكرية يختلف عن العقل الذي يدير الدولة، وخطاب الحرب يختلف عن خطاب السلم.
لذلك، يجب اعتماد الحكمة والصبر والعدل كركائز أساسية لنجاح الجمهورية السورية الجديدة، وإعادة بناء وطن يجمع جميع أبنائه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.