شعار قسم مدونات

بين ولادة السجن وموته.. سجناءٌ مؤبّدون

الجهات الحقوقية والمدنية أعلنت الاثنين الماضي انتهاء عمليات البحث عن المعتقلين داخل سجن صيدنايا سيىء الصيت
يكن سجن صيدنايا إلا مسخًا اتخذ من السجون الفرنسية التقليدية مثالًا في التعذيب والسفك اللامعقولين (الجزيرة)

هل يجوز أن نعتاد المشاهد المؤلمة، نحن الذين حُكم علينا بالانحدار من تلك البقعة الجغرافية الشرق- أوسطيّة؟ أنتجرّأ على الاحتفال والسعادة بسقوط نظام "الأبد" أمام عدالة التاريخ، وانهيار أسوده الباطشة، أم علينا البقاء مُتيقّظين أمام الآتي من الأحداث لجهلنا بها، ولاعتيادنا على الترحّم على الماضي؛ لأننا لم يُكتب لنا يومًا الفرح بأيّ ربيع؟

يكن إلا سجن صيدنايا مسخًا اتخذ من السجون الفرنسية التقليدية مثالًا في التعذيب والسفك اللامعقولين، ومن الحديثة منها سرّيّة السراديب واسوداد الحيطان المطلية خارجًا بدماء من ذُبِحوا

حتّى وإن جزمنا وهلّلنا لهذا الانتصار وسط الإبادة الجماعية في غزّة، وأثناء الهدنة في لبنان، كيف يُسمَح لنا بالابتسام أمام صور المساجين العابقة بالشاشات، وذاكرتهم المقتولة، وسنوات عمرهم المدفونة أزلًا في مكانٍ أضحى اليوم دهليزًا تتجوّل فيه كاميرات الإعلام، بعد أن ابتلع الخوف أسماءهم وما تصوّروه؟

تحدّث فوكو في كتابه "المراقبة والعقاب" عن ولادة السجن، ولكن ماذا عن وفاته؟ أتموت السجون حقًّا بمجرّد تدميرها أو الهروب منها، أم إنه كما يُنسى ويتم الاعتياد على كلّ الأشياء، تصبح حتّى السجون جزءًا من مساجينها إلى الأبد؟

لقد تحدّث أيضًا عن تصميم السجون، متناوِلًا الفرق الأوّل بين السجون في العصر القديم وسجون العصر الحديث، موضّحًا أن المعاقبة الحديثة أضحت مراقبة ذاتية، لا تستدعي التعذيبات العلنية، ولا التشويهات الجسدية التي يجوز تفنيدها كما لو أنها فنٌّ قائم بحدّ ذاته في أرواح البشر الماجنة.

إعلان

كما أنه استخدم مثال البينتكايون كي يصور ذلك الشكل من التعذيب الحداثيّ، وهو سجن مصمّم على شكل دائري، ويهدف إلى جعل العقاب عملية نفسية بحتة.

لم يعلم أنه في مكان مثل سوريا، وخاصة في سجن صيدنايا، كان الحكم السياسي هو البينتكايون، أما السجن فلم يكن إلا مسخًا اتخذ من السجون الفرنسية التقليدية مثالًا في التعذيب والسفك اللامعقولين، ومن الحديثة منها سرّيّة السراديب واسوداد الحيطان المطلية خارجًا بدماء من ذُبِحوا.

"الوحوش لا تقتل المخلوقات الأخرى لمجرد الابتهاج، الوحوش لا تبني معسكرات اعتقال أو غرف غاز، ولا تعذّب الوحوش أبناء جنسها إلى أن تهلكها ألمًا، ولا تستنبط الوحوش متعةً جنسية منحرفة من معاناة وآلام أقرانها – وإن كانت ضمن إرادتهم، وهو ما قد يشكّل موضوع مقال آخر وحده".

هذا ما ذكره بيرنهاردت ج هوروود في كتابه "التعذيب عبر العصور"، مختصرًا بالفعل، ما يمكن ألّا يصدر يومًا عن أي كائن غير الإنسان، مختزلًا ما تثبته لنا الأيام يومًا تلو الآخر من شرور غير معقولة، تعشّش في الواقع المرعب من حولنا إلى حدّ تجميد الأمل بالكامل أمام انتصار الألم، ووقاحة التراجيديا.

الأنظمة القمعية وتعذيبها السادومازوخيّ، والخطابات "الحضارية" التي يتلوها الحكّام لا تحلّق سوى حول الانضباط والمعاقبة والسياط المسننة في أعينهم

قد يكون فيما قاله دعوة لعدم التفاجُؤ بتاتًا مما قد يصدر عن الإنسان من همجيات غير مبررة الملامح، باعتبارها هنا منذ غابر الأزمان.. بيد أن حركة التاريخ المبرِّرة لنفسها تقرّر – من جهة أخرى- ردم السجون وتحرير المظلومين، كأن جلّ ما يجري هو التلاعب بكل بساطة بالضعفاء في الأرض.

أمّا النخبة من البشر فلا تريد الفهم أو التغيير، والمسيطرون ينتظرون كرسي الحكم للتفنّن في السادية، كأن مفهومي السلطة والأخلاق لا يمكن لهما أن يكونا متجانسين؛ فما السلطة في النهاية سوى علاقة سادومازوخيّة مضطربة، تفرض هواماتها على الطرف الآخر عنوةً، وتفتك به إلى ما لا نهاية؟

إعلان

أعلم أنني عاهدت نفسي أكثر من مرّة على التوقف عن الكتابة عن هذا الموضوع، وتقبُّل أن في الإنسان شيئًا من نبلٍ يجعله رغم نزعاته السادية أو المازوخية يذهب أبعد منها، ويقرّر أن يبقيها ضمن الأطر المقبولة للمخيّلة دون الاسترسال بها الى هذا الحدّ.

ولكن، كيف لي ألّا أعود إلى هذا الحقل المعجمي نفسه عندما أرى أنّ عجلة العالم سادومازوخية، والأنظمة القمعية وتعذيبها سادومازوخيّ، والخطابات "الحضارية" التي يتلوها الحكّام لا تحلّق سوى حول الانضباط والمعاقبة والسياط المسننة في أعينهم؟ كيف لا، وبمجرد أن فرّ الأسد، اتّضح أن سجونه تليق بأن تكون في روايات لو ماركيز دو ساد، رغم أن الجنس مستتر بخبث.. كخبث كلّ البشر في النهاية، كخبثنا وسادومازوخيتنا -جميعًا- المبطّنة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان