شعار قسم مدونات

الصحافة الأفريقية وتغطية طوفان الأقصى.. ماذا بعد ذلك؟

من مظاهره لدعم القضية الفلسطينية واغلاق السفارة الإسرائيلية في جنوب أفريقيا
لم تصمد الرواية الإسرائيلية طويلًا حتى تكشفت للأفارقة حقيقة الجلاد الذي يصور نفسه على أنه الضحية (الجزيرة)

إن العالم لم يغادر لوحة الفنان الفرنسي جان ليون جيروم، الذي أكد على أن الحقيقة لا مناصر لها، في سياق تاريخي يجدد نفسه اليوم، بالوقوف خلف سرديات غربية أرادت أن ترتدي قصص السابع من أكتوبر/ تشرين الأول بمزاج إسرائيلي، لا يعكر صفوه حقيقة عارية تحبس نفسها في بئر، ولا تخرج من برواز منظورات الشمال وقناعاته.

فقد شهدت عناوين الصحف والبرامج الحوارية حول العالم موجة من الأخبار التي تدعم الرواية الإسرائيلية في الحرب على غزة؛ في الساعات الأولى من 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وما تقفى من نسج لسرديات غربية توطدت في استقطاب الرأي العام العالمي.

عكفت إسرائيل بذلك في استهداف المقاومة الفلسطينية من خلال بروباغندا الإرهاب ومعاداة السامية، وما تلاها من ادعاءات حول ارتكاب المقاومة فظائع مماثلة بقطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء وغير ذلك.

برزت حالة من التعاطف مع الفلسطينيين من نشطاء غربيين وأفارقة، قرروا الإبصار بأنفسهم لافظين السنن التقليدية المتبعة من شركات الإعلام العالمية، ولم تصمد بذلك الرواية الإسرائيلية طويلًا حتى تكشفت للأفارقة حقيقة الجلاد الذي يصور نفسه على أنه الضحية

بذلك اختار زعماء غربيون الاصطفاف في طابور تصديق الرواية الإسرائيلية ونزع الشرعية من المقاومة الفلسطينية، بأنسنة انتقائية تجرد طرفًا من حقوقه، وتمنح الطرف الآخر من الإنسانية ما يكفي.

لكن سرعان ما برزت حالة من التعاطف مع الفلسطينيين من نشطاء غربيين وأفارقة، قرروا الإبصار بأنفسهم لافظين السنن التقليدية المتبعة من شركات الإعلام العالمية، ولم تصمد بذلك الرواية الإسرائيلية طويلًا حتى تكشفت للأفارقة حقيقة الجلاد الذي يصور نفسه على أنه الضحية.

إعلان

في محاولة لفهم طبيعة غرف الأخبار الغربية، والتأطير الإعلامي الذي سلكته على مدى سنوات تجاه المقاومة الفلسطينية، نتناول في هذا المقال كيفية مساهمة الصحافة الأفريقية في تغطية العدوان الإسرائيلي على غزة، وبيان التحديات التي تواجهها محليًا وسط الدعم الشعبي المناصر للقضية الفلسطينية، وبعد المعادلة التي فرضتها عملية طوفان الأقصى على الأرض، من خلال تفنيد كل السرديات والروايات التي نسجتها إسرائيل حول السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

هل تسعى وسائل الإعلام الغربية لتقديم سرد بديل ينزع عنها الحرج الذي وقعت فيه بسبب تحيزها الواضح لإسرائيل؟

يقول إبراهيم عبد، الصحفي في إذاعة وتلفزيون إقليم ناساراوا بنجيريا: "إن تغطية الصحافة الأفريقية للحرب الإسرائيلية على غزة، أصبحت بوتيرة متسارعة بعد اندلاع أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لذا فإنها تحظى باهتمام شعبي واسع، وخلقت بذلك مشاعر قوية في الداخل النيجيري الذي يتضامن مع الفلسطينيين".

لكن هذا التناول الإعلامي للقضية الفلسطينية تقف أمامه تحديات كثيرة ماثلة، وهي:

  • محدودية الوصول إلى المعلومة في ظل عدم وجود مصادر موثوقة، بسبب القيود التي تفرضها إسرائيل على الصحفيين.
  • التأثير السياسي والمالي: قد يؤثر ذلك في التغطية الإعلامية، ما يؤدي إلى تقارير منحازة أو رقابة ذاتية.
  • بالإضافة إلى أن المؤسسات الإعلامية في نيجيريا تواجه قيودًا مالية كصحيفة "ديلي تراس" التي مقرها أبوجا، تجعلها غير قادرة على التغطية وإجراء تقارير استقصائية شاملة.

يعتقد إبراهيم "أن وسائل الإعلام الأفريقية أصبحت تتمتع بدور مؤثر في الأحداث العالمية، بما في ذلك حرب إسرائيل على غزة، ساعدها في ذلك تجاذب الحديث مع المتابعين حول مواقع التواصل الاجتماعي، الذي أصبحت تستقي فكرته منها، لذا فإن المنصات الرقمية تشهد مناصرة شعبية كبيرة للقضية الفلسطينية. هذا ألهم الصحفيين الأفارقة أن يقدموا القضية الفلسطينية في السياق التاريخي، الذي تم تجاهله سابقًا من قبل وسائل الإعلام الغربية.

رغم أن القارة الأفريقية تئن تحت وطأة أزمات وكوارث إنسانية وصراعات، فإنها وجدت نفسها تشاطر الفلسطينيين الشعور بالظلم، والإبادة الجماعية التي يتعرض لها سكان قطاع غزة من قبل العدوان الإسرائيلي، في حالة من اليأس يعيشها الإعلام الغربي

رغم فرض إسرائيل ضوابط صارمة على الصحفيين الدوليين في يناير/ كانون الثاني، واشتراط مرافقة عسكرية ومراجعة لقطاتهم قبل بثها، فإنها لم تستطع تقييد وسائل التواصل الاجتماعي، وكبح الأصوات المناهضة لقراراتها، فهذه الوسائل برزت كقوة فعالة في تشكيل السرد التاريخ الذي ظل على الدوام رهنًا بين الدبابة الإسرائيلية ومنظورات الشمال، دون الاستماع لصوت الجنوب الذي ظل في تغييب عن أحداث تجري تحت أقدامه.

إعلان

بذلك حركت هذه الوسائل السكون التقليدي، وأزاحت العبء عن وسائل الإعلام الأفريقية، التي وجدت نفسها في خضم التغطية الإعلامية، وإن كان بشكل خجول، فهنالك فئة من الحكومات الأفريقية متخوفة بشأن وجهات النظر تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، وهو ما يبرر التردد الذي تفصّله الصحافة في أفريقيا على مقاس واقعها وحدود الحريات فيها، رغم التضامن الشعبي من المجتمعات الأفريقية.

على سبيل المثال، نجد أن كينيا دعمت بشكل صريح إسرائيل وحربها في غزة، في 4 أغسطس/ آب 2023، إلا أن صحيفة "ذا ستار"، التي تحظى بشعبية كبيرة في الداخل الكيني، نشرت في التاسع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول، مقالًا يحمل عنوان "القضية الفلسطينية: كن على الجانب الصحيح من التاريخ"، تاركةً القراء أمام أهوال من الحقيقة، حاول الإسرائيليون إخفاءها في شهوة الثأر المستمرة على القطاع.

أما جنوب أفريقيا الداعمة لفلسطين، فقد نشرت عبر وسائل الإعلام المحلية محتوى يتعلق بالضحايا الفلسطينيين والدمار الذي طال قطاع غزة؛ فنجد صحيفة "ذا ستار جوهانسبرغ"، التي تناولت في سلسلة مقالات الشهداء في غزة، وتساءلت: كيف تفلت إسرائيل من العقاب؟ وكيف يقدم الغرب الدعم السياسي والعسكري بعد كل هذه الأرقام من الضحايا؟. كما نشرت "صنداي تايمز" التي مقرها جوهانسبرغ مقال رأي دعت فيه إلى مقاطعة إسرائيل اقتصاديًا تضامنًا مع فلسطين.

ولم يكن التناول الإعلامي للقضية الفلسطينية بعيدًا عن بقية القارة الأفريقية؛ إذ إن قنوات مثل "جوي نيوز" في غانا، و"راديو نيجيريا" في نيجيريا، وغيرها من المحطات التلفزيونية والإذاعية، كانت تغطي الحرب على غزة.

تعتقد الصحفية الإثيوبية أحلام محمد أن "الشعوب الأفريقية هي أكثر الشعوب شعورًا برفض الاستعمار والتدخلات الأجنبية، وأن الإثيوبيين كغيرهم من سكان القارة السمراء يتضامنون مع الفلسطينيين ورغبتهم في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي. رغم محاولات وسائل الإعلام الحكومية تجنب تغطية الأحداث الجارية في قطاع غزة".

إعلان

من الجانب الآخر، تسعى إسرائيل إلى تحسين صورتها لدى الشارع الإثيوبي، تارة عبر وسائل الإعلام الحكومية، وتارة أخرى عبر تقديم مساعدات في مجال الأمن والزراعة.

ترى أحلام أن "القضية الفلسطينية حاضرة في تغطية وسائل الإعلام المحلية، فهنالك إذاعات تحظى بانتشار واسع في إثيوبيا كـ"أهادو" و"شغر"، هذه الإذاعات وغيرها كانت تغطي معاناة الشعب الفلسطيني بكل مهنية ومصداقية.

خلقت هذه التغطية وعيًا وفهمًا سياسيًا لدى المستمع الإثيوبي، بالإضافة إلى ما تكشف من الإدراك والصحوة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وفند كل السرديات الإسرائيلية المقيتة.

رغم أن القارة الأفريقية تئن تحت وطأة أزمات وكوارث إنسانية وصراعات، فإنها وجدت نفسها تشاطر الفلسطينيين الشعور بالظلم، والإبادة الجماعية التي يتعرض لها سكان قطاع غزة من قبل العدوان الإسرائيلي، في حالة من اليأس التي يعيشها الإعلام الغربي بعد فشله في توفير سياق تاريخي ملائم، يساعده في تبرير تبني الرواية الإسرائيلية وجذور هذا التحيز غير الأخلاقي.

لم يكن اهتمام إسرائيل بأفريقيا في السياسة والإعلام وليدَ اللحظة، بل يرجع إلى ما قبل نشأة إسرائيل، وتحديدًا إلى وقت التفكير في مؤتمر بازل 1897، حيث كانت أوغندا واحدة من  البدائل المطروحة في حينها كي تكون وطنًا لليهود

يعتقد الصحفي في إذاعة "10 تي في" الرواندية، أوزوالد موتوييزو أن "الصحافة في أفريقيا لا تغطي الحرب على غزة بشكل أكثر فاعلية، ويعدد الأسباب في ذلك من عدم وجود مراسلين أفارقة في الميدان، بالإضافة إلى استهداف الصحفيين الفلسطينيين من قبل إسرائيل.

بذلك وجدت وسائل الإعلام الأفريقية نفسها رهينة لسرديات غربية تحاول أن تسلط الضوء على أجزاء محددة من القصة وفق منظورات إسرائيلية، دون الاعتراف بحق الفلسطينيين الشرعي في الدفاع عن أرضهم وتاريخهم. حيث إن وسائل الإعلام الأجنبية عملت على ترجمة الأخبار المنحازة لإسرائيل بلغات محلية حتى يسهل فهمها وتصل إلى الداخل الرواندي".

يحكي أوزوالد: "لقد حاول الصحفيون المحليون تغطية الأحداث الجارية في قطاع غزة، وتمليك الرأي العام في رواندا حقيقة الخلاف وجذوره الممتدة، ما فتح الباب واسعًا لحالة من التضامن من معظم الإعلاميين مع الفلسطينيين وقضيتهم التاريخية، في مواجهة ما يتعرضون له من عقاب جماعي تمارسه إسرائيل بحقهم، رغم محاولة وسائل الإعلام الغربية تمرير أجندة سياسية، وشيطنة المقاومة الفلسطينية.

إعلان

لم يكن اهتمام إسرائيل بأفريقيا في السياسة والإعلام وليدَ اللحظة، بل يرجع إلى ما قبل نشأة إسرائيل، وتحديدًا إلى وقت التفكير في مؤتمر بازل 1897، حيث كانت أوغندا واحدة من  البدائل المطروحة في حينها كي تكون وطنًا لليهود، ومن هنا يبدو جليًّا لماذا تحاول إسرائيل أن تسرد رواية تجعلها في أعين الأفارقة الدولة الصديقة التي لا تعتدي على الشعوب الأخرى، رغم تعبير الشعوب الأفريقية ووسائل الإعلام في أكثر من مرة عن موقفها الواضح بالتضامن مع الفلسطينيين، وحقهم في إقامة دولتهم.

تقول الصحفية نعومي سومانو، وهي مديرة تلفزيون جولف أفريقيا (مقره في بنين): "إن الحرب الإسرائيلية على غزة حظيت بمتابعة كبيرة في الداخل البينيني، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، الذي أعاد القضية الفلسطينية للواجهة مرة أخرى في ظل حرية الرأي والرأي الآخر التي تتمتع بها دولة بنين. كانت قنوات تلفزيونية كجولف أفريقيا وغيرها من المحطات الإعلامية، تعمل على مدار كل النشرات الإخبارية والبرامج في تغطية الأحداث الجارية في قطاع غزة.

ترى سومانو أن "الشعوب الأفريقية أصبحت تتمتع بمعرفة أكثر حول طبيعة الخلاف بين إسرائيل وفلسطين، من خلال اهتمام وسائل الإعلام الأفريقية بما يحدث في غزة، وهو الأمر الذي جعل كثيرًا من هذه الشعوب تتضامن مع الفلسطينيين وقضيتهم ضد الرواية الإسرائيلية حول الحرب".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان