تصدع رؤوسنا من حين لآخر، في تزامن "غريب" مع حراكات الأمة المطالبة بحريتها والساعية لأخذ زمام أمرها بيدها، نداءات تبدو واثقة من أحقيتها في "تعليم" الآخر و"تحضيره" و"تنويره".
في هذا المقال، نبحث عن بعض جذور التنوير، وأساساته الصلبة الأولى، نقيس إليها شعارات التنوير الحالية.
في عام 1762، وهو العام نفسه الذي أبدع فيه روسو مصطلح "حقوق الفرد"، أدانت إحدى محاكم تولوز بجنوب فرنسا رجلًا بروتستانتيًا يبلغ من العمر أربعة وستين عامًا، يُدعى جان كالاس بتهمة قتل ابنه لمنعه من التحول إلى المذهب الكاثوليكي.
لقد كانت أهم مقدمات التنوير وجذوره، الاهتمام بالإنسان. فمع تقدم العلوم، سعى الفلاسفة التنويريون إلى جعل الإنسان مركز الاهتمام المطلق
أصدر عليه القضاة حكمًا بالإعدام بسحق عظامه على عجلة السحق. قبل تنفيذ حكم الإعدام، خضع لاستجواب تمهيدي، للكشف عن شركائه، حيث أوثق الجلادون معصمَيه بإحكام إلى قضيب خلف ظهره. شُدت ذراعاه إلى أعلى، فيما يحفظ ثقل حديدي قدميه ثابتتين في مكانهما.
بعد نوبتين من التعذيب، أوثقوه في مقعد، ثم صبوا قوارير الماء في حلقه عنوة فيما ظل فمه مفتوحًا. ولما عُذب من جديد كي يدلي بالأسماء، جاء ردّه كالآتي: "حين لا توجد جريمة من الأساس، لا يمكن أن يكون هناك شركاء في الجريمة".. ثم تفضلت المحكمة وأنعمت على كالاس بالخنق حتى الموت بعد ساعتين من العذاب، قبل أن يوثق إلى العجلة، ومات وهو لا يزال يؤكد براءته.
أثارت قضية كالاس الانتباه الشديد، عندما اهتم بها فولتير، فبعد مرور أشهر قلائل على تنفيذ حكم الإعدام، وتبين براءة المتهم، جمع فولتير المال من أجل العائلة وكتب خطابات، ثم نشر أعمالًا تتناول القضية، وكان أشهر هذه الأعمال مقالته "رسالة عن التسامح بمناسبة موت جان كالاس".
كان جوهر حُجته أن التعصب لا يمكن أن يكون حقًّا، وعبّر عن سخطه عن التعصب الديني الأعمى الذي انتهى إلى "تحريك رجال الشرطة والقضاة لإعدام رجل"، وصرح: "من المستحيل أن نعقل كيف يمكن لرجل، أن يقول لآخر: آمن بما أؤمن به وإلا ستموت!".. كان يشير إلى التهمة الموجهة لكالفن، والتي بموجبها تم إعدامه، وهي اعتناق المذهب الكالفيني المحظور في فرنسا منذ عام 1685.
واصل فولتير – وهو أحد أشهر فلاسفة التنوير – التصدي بقوة لهذا التعصب الديني، حتى كان يلهج في كتاباته بهذا الشعار: "حطموا هذا الكائن المشؤوم" (يقصد الدين). فأصبحت المواجهة في سياق الثورة العامة على الظلم والتعصب والاستعباد وانعدام العدالة، شديدة تجاه عقبتين اثنتين: الدين والسلطة القائمة.
لأن الأنظمة السياسية بدورها كانت تشكل مانعًا أمام الحرية، وتقيد العقل وتوالي الدين، ومن هنا كانت بدورها أيضًا عقبة ينبغي تجاوزها، ما جعل الفكر التنويري متّسمًا بـ"صبغة مناوئة للدين ومعادية للسياسة".
في سياق متسم بالثورة أساسًا على الطبقية وعلى الوضع الاجتماعي المزري والحروب الدينية والتعصب، وفيه كانت الأنظمة السياسية والكنيسة متحالفتَين وسببًا رئيسيًا في هذا التدهور. فالعداء للدين من جهة، وللأنظمة السياسية من جهة أخرى، هو نتيجة وليس مقدمة.
لقد كانت أهم مقدمات التنوير وجذوره، الاهتمام بالإنسان. فمع تقدم العلوم، سعى الفلاسفة التنويريون إلى جعل الإنسان مركز الاهتمام المطلق، حتى قال دينيس ديدرو، وهو من طلائع التنوير الفرنسي ومن المؤسسين لموسوعة العلوم: "لماذا لا نُدخل الإنسان إلى أعمالنا كما أدخلنا فيها الكائنات؟ ولماذا لا نجعل الإنسان في مركز اهتمامنا؟".
التركيز نفسه على الإنسان كان طابع جميع فلاسفة عصر التنوير حتى خارج فرنسا، حيث اعتبر الإنجليزي ألكساندر بوب أن "الموضوع الحقيقي لتحقيق البشرية هو الإنسان". ولذلك اعتبر المؤرخ الإنجليزي فريدريك كوبلستون أن دراسة الإنسان علميًا شكلت روح عصر التنوير.
موقف التنويريين المعادي للدين والسلطة كان نتيجة مساهمتهما في تعميق الفوارق والتعصب والوضع الاجتماعي المزري
وعمومًا، ازدهر الفكر التنويري ليس فقط كحركة فلسفية بل كفعل مجتمعي. حيث شهد عصر التنوير هذا ظهور مفكرين تحدّوا هياكل السلطة التقليدية، وشددوا على قدرة الإنسان على إحداث تغيير إيجابي.
وكان في طليعة هذه الثورة الفكرية شخصيات بارزة مثل فولتير ومونتسكيو ودينيس ديدرو ولورند دالمبير وكوندورسيه وغيرهم، لم تُشكل مساهماتهم المشهد الفكري في ذلك الوقت فحسب، بل تركت أيضًا أثرًا دائمًا عند جميع من سعى بعدهم نحو المساواة والعدالة والتحرر والعقد الاجتماعي وحقوق الإنسان.
من خلال هذه الصورة المختصرة، يمكننا أن نوجز جذور التنوير في الآتي:
التنوير موقف مبدئي من التعصب والتعذيب وغياب العدالة. موقف التنويريين المعادي للدين والسلطة كان نتيجة مساهمتهما في تعميق الفوارق والتعصب والوضع الاجتماعي المزري. روح التنوير الاهتمام بالإنسان. التنوير فعل مجتمعي، وخطوة في اتجاه الثورة على أنظمة قمعية وإحداث تغيير إيجابي قائم على التعاقد الاجتماعي، وتحقيق المساواة والعدالة وحقوق الإنسان.
إننا حين نقابل هذه الأصول المهمة، بما يصدر عن تنويريي اليوم من "مقولات" وأفعال، خاصة تنويريي الدول العربية والإسلامية، لا يمكن إلا أن نجزم بأننا أمام أكبر عملية تزوير للتنوير؛ فمقولات كثير من تنويريينا اليوم، تعبر عن موقف نفسي عميق ومبدئي رافض للدين، مهما كان خطابه متزنًا، مقاومًا للاستبداد، وطالبًا للحرية، والعدالة.
مما لا شك فيه، أن العالم العربي على الخصوص، بحاجة لكثير من "التنوير" بمعانيه الأصلية، لا المزورة. ومما لا شك فيه أننا بحاجة لكثير من العقلانية والعلمية
بل الغريب أنها خطابات متصالحة، أو على الأقل غير مُدينة للدين الرسمي أو "الفقه المبَدَّل"، الذي يلهج بتمجيد الاستبداد وتبرير الظلم والفوارق، والتأسيس لطاعة الحاكم. وهي بذلك تتمثل وتتماهى مع ما ثار ضده التنويريون الأوائل.
هذه المقولات نفسها، في فضائنا العربي والإسلامي، لا تخجل من التظاهر مطالبة بحقوق وحريات الأفراد المختزلة في تقزيم فظيع لحاجيات "موضوع التنوير الحقيقي" وروحه، في حرية الجسد، وحرية تناول الكحول، وضرورة العري… إلخ.
كما أنها خطابات لم تستطع أن تبني فعلًا مجتمعيًا وتيارًا حقيقيًا يأتي بتغيير إيجابي ويؤسس لتعاقد اجتماعي ولدولة مدنية. وهو بذلك يظل على هامش الفاعلية، وينتصب بعبعًا يُستدعى فقط لتخوين كل فعل تحرري حقيقي، والتشويش عليه.
إن مما لا شك فيه، أن العالم العربي على الخصوص، بحاجة لكثير من "التنوير" بمعانيه الأصلية، لا المزورة. ومما لا شك فيه أننا بحاجة لكثير من العقلانية والعلمية، وأننا بحاجة إلى الثورة على الدين نفسه إن كان أداة في يد المستبدين أفيونًا للشعوب مبررًا للظلم والطغيان والتعصب.
وإننا بحاجة لبناء فعل مجتمعي وتعاقد وتحقيق المساواة والعدالة وحقوق الإنسان.. غير أن التجربة والواقع يخبراننا أن كثيرًا من أدعياء التنوير إنما يسطون على "وعاء فكري" ومرجعية فلسفية، ليس لهم منها سوى العداء المبيت لهوية هذه الشعوب الإسلامية.
فلطالما تعرض "الإنسان" لتعذيب أفظع وأشنع وأبشع مما تعرض له جون كالاس، ولطالما سجن واغتصب واعتُدي عليه وأُعدم… فظائع ظل "فولتير" وعالمنا العربي والإسلامي – باستثناء قلة قليلة من المبدئيين – يتفرجون عليها بلا حراك، إلى أن تذكروا ذات سقوط للاستبداد، حريةَ الجسد، والحق في "المروق عن الدين". وإن فضح هذا الموقف الذي لا يمت إلى التنوير بصلة، من طرف عقلاء ومراجع فكرية "تنويرية"، من الضرورة بمكان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.