شعار قسم مدونات

نظرة دستورية في الحالة السورية

مرهف أبو قصرة (يمين) مع أحمد الشرع في أثناء اجتماع الفصائل العسكرية حول شكل المؤسسة العسكرية في سوريا بعد خلع الأسد (إدارة العمليات العسكرية -تلغرام)
لقاء جمع أحمد الشرع مع الفصائل العسكرية (مواقع التواصل)

الحمد لله الذي أشهدنا نهاية طاغية الشام وتحطيم الأصنام، هنيئًا لكل السوريين، ولكل العرب ولكل الإنسانية، التي كرّم الله – تعالى – الناس معها وفضلهم على كثير من خلقه.. هي قاعدة في دستور الكون، حكمة الله – تعالى – في التدبير، ولكن الطاغية يرى منهجًا غير هذا، فلا يسمع ولا يرى غير ما تسول له نفسه ونظامه الجائر من إذلال الناس وإفقارهم، وقتلهم وتهجيرهم، وحبسهم وتغييبهم؛ فجاءت نهايته الحتمية بسقوطه وتحطيم أصنامه، فلله تعالى الحمد، وله الفضل.

مما لا شكّ فيه أن الحالة الراهنة في سوريا حالة استثنائية خاصة بامتياز، ربما لا تستقيم معها المعالجات الدستورية التقليدية؛ فقد خرجنا من نير نظام بائد ظالم مستبد، استمر لعقود لا يرقب إلًّا ولا ذمة، ولا يرعى رحمًا ولا عهدًا، أنهك معها العباد والبلاد، وجعلها في حالة تراجع على كافة الأصعدة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، انتشر معها الفقر، وهو من ألدّ أعداء الإنسان، فـ "لو كان الفقر رجلًا لقتلته"، كما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. هذه الحالة الاستثنائية تتطلب اقتراحات وتشاورًا وتبادلًا للرأي، وحلولًا تعلي الشأن الوطني بهدف الاستقرار والازدهار.

ما نطرحه يساهم مع فِكَر وأطروحات كل الغيورين في تقديم حلول تساعد على استتباب الأمر في تماسك البلاد ووحدتها، وسيادتها واستقلالها، وتحقيق الأمان والاطمئنان، بما يتطلب وحدة الصف وتكاتف الجهود

حالة الضرورة في الفقه الدستوري إحدى حالات الاستثناء، التي تستدعي التدخل غير الاعتيادي لحل المشكلات القائمة التي تواجهها الدولة، وترشيد المسار بالاستناد إلى المبدأ المعروف قديمًا، بأن سلامة الدولة فوق القانون.

إعلان

فالحالة الاستثنائية تفرض نفسها نتيجة متغيرات فجائية غير متوقعة، سواء كانت طبيعية أم سياسية، تستدعي مواجهة حالات طارئة وتغييرات جذرية في حياة الدولة ومسيرتها نحو الاستمرار الطبيعي لكيان الدولة.

ولعل ما يبرر حالة الضرورة حاليًا أن التغيير الجذري الذي حصل أشبه ما يكون بالزلزال السياسي في البلاد، وانعكاساته على المنطقة، وتأثيره في العالم، وهو التغيير الذي اشتاق له السوريون طويلًا، فقد عانوا وضحّوا وعملوا له سنوات طوالًا، حتى تحققت أمنيتهم بتوفيق من الله رب العالمين.

لكنه رغم الفرحة به فإن الدولة تواجه تحديات كبيرة، تستدعي مواجهتها بوسائل استثنائية غير اعتيادية، وفقًا لمعايير تتجلى بأنها ضرورية ولازمة ومؤقتة لمواجهة الحالة الراهنة؛ بهدف المحافظة على النظام العام، وتسيير المرافق العامة، وتقديم الخدمات، وتلبية الاحتياجات، والسعي نحو الاستقرار والبناء، خاصة أن النظام البائد أمعن في الإيذاء حتى آخر رمق، ولم يعر اهتمامًا للدولة والمجتمع، وكان غير عابئ بمسيرتها ولا مستقبلها، وتركها بحالة فراغ تام دون نقل منظم للسلطة في حده الأدنى.

ومما يحسب للإدارة السياسية الجديدة – وقد أحسنت في هذا – أنها أبقت على حكومة النظام البائد بعض الوقت، ضمانًا لحسن سير النشاط العام، وعملت على توجيه الحكومة لاستلام العمل من الحكومة السابقة.

لعل ما نطرحه يساهم مع فِكَر وأطروحات كل الخيرين الغيورين في تقديم حلول تساعد على استتباب الأمر في تماسك البلاد ووحدتها، وسيادتها واستقلالها، وتحقيق الأمان والاطمئنان، بما يتطلب وحدة الصف وتكاتف الجهود.

حالة الاستثناء المتعارف عليها تعمل على تركيز السلطة بشخص أو جهة، لمواجهة حالة الخطر الجسيم المحدق بالدولة في فترة من الفترات، وقد حدث ذلك لدى أمم أخرى، ومثال على هذا ما أعلنته الجمهورية الفرنسية الخامسة إبان حرب التحرير الجزائرية سندًا للمادة 16 من دستور فرنسا لعام 1958.

إعلان

ولكننا أمام حالة استثنائية خاصة كما بيّنتُ، تتعلق بتغيير سياسي يهدف إلى إعادة بناء دولة وقعت تحت نير نظام ظالم مستبد، ذلك النظام الذي سخر موارد الدولة لتثبيت حكمه بالقبضة العسكرية والأمنية، غير عابئ بمتطلبات ومقدرات الناس، وأعاد معها الدولة عشرات السنوات إلى الوراء في بنية متهالكة وتحديات جمة.

الفصل بين السلطات من المبادئ الدستورية الجوهرية في الدولة المعاصرة؛ فإنه – ومع حالة الاستثناء – يمكن الأخذ بمضمونه، وعلى هديه يمكن أن يكون الإعلان الدستوري مترافقًا مع تشكيل مجلس حكم، مثل مجلس رئاسي يتولى الإدارة السياسية العليا للبلاد في هذه المرحلة

إعلان دستوري قد يساهم في تحقيق الأمن القانوني، وحماية استقرار الإطار القانوني في الدولة؛ فالأمن القانوني يتعلق بالطمأنينة واليقين، مما يجب أن يسود المجتمع في إطار التنظيم القانوني لمختلف الأنشطة والعلاقات، وموضوع الطمأنينة من الأهمية بمكان لدى الناس حتى يشعروا بنوع من الاستقرار مع هذا التغيير الجذري الكبير، بما يضمن استقرار المراكز القانونية للمجتمع وللأفراد وتوقعاتهم المشروعة، والذي تعكسه حاليًا أقوال ونشاطات القيادة الحالية، وهو ما يحتاجه المجال التشريعي أيضًا على المستوى العام للتصدي لما يمكن تسميته "خطر الواقع"، الذي ينشأ تلقائيًا مع الأزمات والتغيرات الكبيرة، ويمكن أن تبادر إليه الإدارة السياسية الجديدة التي اكتسبت شرعية ثورية مستمدة من الإجماع الشعبي على وجوب التغيير السياسي، وهو ما تحقق.

يتبع ذلك خطوة تالية تبرر الحاجة إلى السير بخطى ثابتة نحو الاستقرار، بما يعين على أن تتبين معه الأسس القانونية في المرحلة الحالية، والجهات الفاعلة المسؤولة ومرجعيتها القانونية مرحليًا، ليكون العمل العام تحت هذا السقف، تلبية للمتطلبات الأساسية الطارئة الضرورية ووسائل تنفيذها، وكيفية التعامل مع المستجدات، بهدف تنظيم المسير، وجعله أكثر فاعلية في هذه الحقبة من هذا الزمن الجميل بالانتصار على طاغية الشام ونظام حكمه البائد، وعودة سوريا إلى أهلها ومحيطها.

الفصل بين السلطات من المبادئ الدستورية الجوهرية في الدولة المعاصرة؛ فإنه -ومع حالة الاستثناء- يمكن الأخذ بمضمونه، وعلى هديه يمكن أن يكون الإعلان الدستوري مترافقًا مع تشكيل مجلس حكم، مثل مجلس رئاسي يتولى الإدارة السياسية العليا للبلاد في هذه المرحلة، حتى لو طالت بعض الوقت حتى يستتب الأمر.

إعلان

يتعاون معه مجلس استشاري يتولى طرح المراسيم اللازمة وكيفية إدارة شؤون الدولة، وإعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية، إضافة لحكومة الإنقاذ ونشاطها التنفيذي، لتسير الدولة بهداه من أجل تهيئة البلاد للحقبة الجديدة وما تحتاجه من دستور جديد وحوكمة، وقوانين ناظمة للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما يصون الحقوق والحريات والتمثيل الشعبي الحر في المؤسسات السيادية، ويعكس التطلعات المشروعة للشعب السوري، والبدء بالإعمار، وتحقيق المصلحة الوطنية العليا من أجل ترسيخ قيام دولة القانون والمؤسسات على أساس من العدل والمساواة.. والله تعالى المستعان.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان