شعار قسم مدونات

بين المخاطرة والمسؤولية: قصة كفاح حكيمة غزاوية

صور عامة من مخيم اليرموك غرب غزة الجزيرة
خاض سكان قطاع غزة تجارب مريرة في ظل الحرب الإسرائيلية (الجزيرة)

"أول ما هددنا اليهود بقصف المنطقة، أخدت بناتي وطلعنا على أساس سواد الليل، وهنرجع يا ماما.. ومن يومها وإحنا متواجدين في الإيواء".. بهذه الكلمات التي ما زال صداها يتردد في أذن اعتدال، بدأت قصتها.

بدأت اعتدال رحلة النزوح صبيحة اليوم الثاني لمعركة "طوفان الأقصى"، التي انطلقت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، إذ اتجهت مع أسرتها نحو مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، الواقعة في مخيم البريج وسط قطاع غزة، آملةً الحماية واللجوء من براثن القصف الذي طال المخيم.

هذه ليست حربًا، إنما هي إبادة، فعلًا فمن يخرج ليؤدي شغله وخصوصًا في وزارة الصحة يختلف عن الباقي، وفي حالتي أنا كمقيمة ونازحة هدم بيتها هدمًا كليًا هي التجربة الأصعب، لأني أول مرة أطلع في إيواء

  • الحكيمة اعتدال

تروي الحكيمة اعتدال فراونة لـ "الجزيرة نت" قصتها كأم معيلة، وماذا يعني أن تعمل في القطاع الصحي لمدة عام دون راحة، وكيف تعاملت مع الظروف، ولماذا أصرّت على حمل المسؤولية، وماذا عن القصص المخيفة التي واجهتها في عملها أثناء اجتياح الجيش الإسرائيلي لمخيم البريج.

في غرفة صفية لا تتعدى مساحتها 25 مترًا مربعًا تقيم اعتدال (أم بسام) مع وزوجها وأبنائها الثمانية على مقربة من النقطة الطبية، التي تعمل بها داخل المدرسة كجزء إضافي لعملها الأساسي، في حين لا يقتصر عملها على النازحين المتواجدين بل أيضًا المنازل المحيطة بها، ما جعل خدمتها على مدار الساعة، وجعلها تستقبل المرضى في ساعات الليل المتأخرة.. تخبرنا (أم بسام) بهذا وعلامات التعب والإرهاق لا تفارق قسمات وجهها.

إعلان

تقول اعتدال التي تعمل في مستوصف حكومي في مخيم البريج: "كنت السيدة الوحيدة التي عادت للعمل في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، على الرغم من نزوحي مع كل العاملين من الرجال فقط"، فهي وجدت ضرورة لمساعدة النساء في حالات الطوارئ، مبينةً أن هذه ليست أول حرب على قطاع غزة تعمل خلالها.

الحكيمة اعتدال أثناء عملها في المستوصف الحكومي

تضيف اعتدال: "وهذه ليست حربًا، إنما هي إبادة، فعلًا اللي بيطلع يؤدي شغله وخصوصًا في وزارة الصحة بيكون بيختلف عن الباقي، وفي حالتي أنا كمقيمة ونازحة هدم بيتها هدمًا كليًا هي التجربة الأصعب، لإني أول مرة أطلع في إيواء".

بين أخذنا وأخذ الرجال ساعتان، النفسية السيئة التي أصابت النساء من هول ما عمله اليهود لا يصدق، كل فترة هذه تقول صفّوا ابني، وأخرى تقول زوجي

  • الحكيمة اعتدال

تجربة حصار مريرة

كانت رحلة الاستمرار في العمل شاقة بالنسبة لهذه الحكيمة الخمسينية، التي عملت على تأسيس نقطة طبية بمساعدة زملائها في مدرسة "أبو حلو"، والتي كانت تحمل الكثير من الأعباء، ليس في البداية وإنما عند دخول الجيش الإسرائيلي في 28 ديسمبر/ كانون الأول مخيم البريج، إذ تخطت بذلك وصايا القسم الأخلاقية والإنسانية وأدبيات التعاطي مع المريض، وأظهرت التأثير الشديد لمعنى الانتماء وتربيته الحاضنة والضامنة لصدق ممارسة القسم.

تتذكر اعتدال تفاصيل تجربتها القاسية، وتقول: "تجربتنا في الثامن والعشرين من ديسمبر/كانون الأول العام الماضي لما اجتاح اليهود مدرسة أبو حلو، كان شيء مستحيل ينمحي من الذاكرة، إنو إنتي أول مرة بتشوفي اليهود قدام عينك، على الرغم من أنه ناس كتيرة قالوا لي سيبي كل شيء هدول يهود ما بينمزح معهم، كلهم تركوا النقطة الطبية وطلعوا، رح تطلعي؟ قلتلهم: لا، لآخر نفس ضالة، اللي بيصير على مرضاي بيصير عليّ، ولو رجع فيّ الزمن رح آخد نفس القرار، حسِّيت بمسؤوليتي أكثر في هاي الأوضاع".

إعلان

الالتزام المهني الصادق في حالات الطوارئ، الذي تمسكت به اعتدال حتى اللحظة الأخيرة، لم يجعلها تفكر في العواقب القادمة؛ فما عايشته هي وعائلتها لم يكن يخيل لها. إذ عملت على تهدئة المتواجدين في الطوابق الثلاثة من مركز الإيواء، وحرصت على إعطاء مرضاها الأدوية حتى حين دخول جيش الاحتلال إلى المدرسة، الذي صاحبه نسف كثيف للمباني المجاورة، ما أدى إلى وصول شظايا مهولة لهم داخل مركز الإيواء "بين أخذنا وأخذ الرجال كانت ساعتين، النفسية السيئة اللي صابت النساء من هول اللي عملوه اليهود ما بتتصدق، كل شوية هاي تقول صفّوا ابني، وهاي تقول زوجي".. تقول اعتدال.

وتابعت حديثها، وصوتها يغص ويختنق: "الساعتين اللي بعد ما أخذنا اليهود..، طبعًا إحنا كنا طالعين على مجهول، السيدات كانت تدخل مندفعة بدنا نخلص، شو بدو يصير معنا؟ هل اليهود بدهم يموتونا؟ هل موتوا اللي قبلنا؟ بينادوا علينا بالطابور".. أخذني حديثها الطويل لمعايشة هذه التجربة التي وصفتها بالقاتلة المريرة.

وعن لحظة معرفة مصيرهم قالت اعتدال: "صارت الدنيا ليل والجو بارد، ضل سؤال النساء شو بدهم يعملوا فينا حاضر، أنا قلت إلهم همّا خيارين، يا بقتلونا يا بيرجعونا على المدرسة، وحدة ردت عليّ إنتي يا أم بسام متفائلة، لحظات صمت قاتلة ما بعرف كيف مرت بعد سؤال الناس للضابط وهو بيرد ما بعرف، لعند ما نطق الكلمة الأخيرة، لما اليهودي قال ارجعوا الآن.. ردة فعل الناس كانت لا واعية، الشباب صاروا يهلِّلوا، كأنك بتحضري في مباراة مش كنتي بين جيش، رغم عدم معرفتنا مين اختفى، إلا إنّا شعرنا بفرصة الحياة والنجاة مرة أخرى".

خاض سكان قطاع غزة تجربة جديدة في ظل الحرب الإسرائيلية، تمحورت حول اضطرارهم إلى دفن ذويهم في ساحات المستشفيات والمدراس، فضلًا عن حفر القبور الجماعية على عجل

شهادة حية

أما عن المواقف الصعبة التي عايشتها الحكيمة خلال عملها في فترة المحاصرة، وكان صداها يدور في فلك لا ينتهي، فتقول: "دخلنا المدرسة خلاص بدنا نرتاح، جيت بدي أدخل غرفتي، بنظر على النقطة الطبية لاقيت راجل كله بينزف دم، في هاي اللحظة كان نفسي أنام، كانت إصابته طلقة نارية في الوجه، هنا بتوصل المأساة إلي كحكيمة.. كيف أتعامل مع الموقف؟".

إعلان

النقطة الطبية

ثم تنهدت قليلًا وأكملت: "كالعادة طلبت الإسعاف، وكانت المفاجأة في الإجابة: البريج نقطة حمرة!!. اتصلت في الصليب الأحمر وهو المخوّل بهاد الوقت يحل الموضوع، قال لي بالحرف الواحد: دبري حالك، مرت خمسة أيام الراجل بينزف في تمه، وأسنانه نازلة، كمية الاستغلال في المستلزمات الطبية كانت فظيعة، ضلينا سهرانين بدون راحة حتى تواصلنا مع عيلته وتم التنسيق له مع الصليب الأحمر".

وعن أصعب لحظة واجهتها كأم، أشارت والعرق يتصبب منها: "لحظة ما حسيت أنهم أخذوا ابني الكبير، لما ركزت، دمعت، بنتي ريما حكتلي بسام موجود بينهم، اطّمّنت رغم أنه الخوف ما كان مرفوع عنا".

وخاض سكان قطاع غزة تجربة جديدة في ظل الحرب الإسرائيلية، تمحورت حول اضطرارهم إلى دفن ذويهم في ساحات المستشفيات والمدراس، فضلًا عن حفر القبور الجماعية على عجل.

عن هذا تروي اعتدال: "إنك تدفني 12 شهيدًا في المدرسة، في موقف عمرك ما تخيلتي فيه تكون مقبرة، الأطفال يشوفوا كيف مدرستهم تحولت إلى مدفن، غير أنه كان مسكر علينا 22 يومًا، لا وكالة ولا صليب جابوا إلنا فيها شربة ميَّة، وحتى ما تنقص الأدوية والمستلزمات الطبية اجتهدت لحتى أحافظ عليها".

ظهرت ملامح اضطراب ما بعد الصدمة في حديث اعتدال، فتقول: "دونتها لأنه تاريخ 28/12 ما رح تمحيه الأيام، الإنسان بطبعه النسيان، فأنا حبيت أوثق الحدث كتابي، احتفظت فيه لنفسي، حتى إني أغرمت بالجلوس على التلة القريبة من المدرسة اللي وقفونا عليها هداك اليوم، اللي عشته رح يبقى في ذاكرتي وذاكرة كل واحد تواجد في المدرسة مدى الحياة".

بطبيعة الحال، لم تحمل تلك التجربة المروعة في طيّاتها فوائد، لكن ما حدث انعكس على علاقة الأهالي، وأصبح بينهم رابطة أخوة تمثلت في التعاون لمساعدة الآخر، إذ ما روته لي خلال تلك المحاصرة كثير، لم أستطع حصره بين علامتي التنصيص.

تتقاضى اعتدال راتبًا شهريًا قدره 800 شيكل (حوالي 200 دولار)، تقول إنه في ظل غلاء الأسعار لا يكفيها إلا لأسبوع، فيما بعد تبدأ مرحلة الدين، ولامست فئة مهمشة من الذين يعتمد دخلهم على العمل اليومي

أمام المسؤولية

وبسبب معاناة زوجها من مرض السرطان، تتحمل أم بسام إعالة أسرتها وتوفير احتياجاتها، في وضع معيشي صعب يعيشه القطاع جراء شح المساعدات الإنسانية الواردة، وتقدر منظمات دولية أن هذه المساعدات لا تسد سوى 5% فقط من الاحتياجات الأساسية لنحو 2.2 مليون نسمة من الغزاويين، أجبرت الحرب أكثر من 85% منهم على مغادرة منازلهم، والنزوح إلى الخيام ومراكز الإيواء.

إعلان

كما معظم النازحين، تقتات اعتدال وأسرتها على ما تقدمه المدرسة من مواد غذائية معلبة؛ "الحال من بعضه".. بهذه العبارة وصفت حالهم، إذ تتقاضى اعتدال راتبًا شهريًا قدره 800 شيكل (حوالي 200 دولار)، تقول إنه في ظل غلاء الأسعار لا يكفيها إلا لأسبوع، فيما بعد تبدأ مرحلة الدين، ولامست فئة مهمشة من الذين يعتمد دخلهم على العمل اليومي، ويشكلون غالبية العمال في القطاع، تنام عائلاتهم دون عشاء في حال غياب تكية الحمص الخيرية.

لم تشتكِ اعتدال يومًا من مسؤولياتها الكثيرة، فها هي مسؤوليتها كأم تتجلى: "أنا كسيدة بناتي في الجامعة بيساندوني، بس برضو بدك تطبخي وتعجني، الغاز مش متوفر، طبخنا على النار، يعني تشاركنا معاناة الناس". قاطعت حديثها ابنتها ريما: "ماما من زمان ربتنا لسن معين نعتمد على حالنا، بحكم ظروف عملها، علمتنا الطبخ وأعمال البيت، وقفتنا على رجل واحدة".

تختتم أم بسام حديثها بلا بارقة أمل في وجود حل ينهي الحرب، ومع ذلك تتمنى نهايتها فتقول: "لأي سبب كان بدي الحرب توقف، حتى بعد قصف بيتي، مش مهم.. الناس مش قادرة تستمر، لازم يكون في استراحة محارب".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان