شعار قسم مدونات

يوميات من غزة (2)

تكافح زينات النمروطي من أجل تدبير شؤون أسرتها في ظل اشتداد المجاعة في جنوب قطاع غزة-رائد موسى-خان يونس-الجزيرة نت
أهالي غزة يكافحون من أجل تدبير شؤون أسرهم في ظل اشتداد المجاعة في جنوب القطاع (الجزيرة)

عبّر وليد سيف في "التغريبة الفلسطينية 2" عن معاناة أخرى، حيث أشار إلى معاناة الفلسطينيين في ظل هذه السياسات التي تقسمهم وتعرضهم للمزيد من التدمير النفسي والجسدي، قائلًا:

"لم تكن خشونة العيش جديدة علينا، ولكننا نختبر الآن أوضاعًا جديدة من البؤس، ونضطر إلى فعل ما لم نكن نتصور من قبل أننا يمكن أن نفعله، إننا ننحدر بسرعة إلى حيث لا يبقى غير غزيرة البقاء بأي ثمن".

جاءت المآسي في فلسطين، وفي غزة بشكل خاص، متتابعة، كأنّها لعنة لا تنتهي.. لم نُجبر فقط على مواجهة أيام مرعبة مليئة بالهلع، بل فقدنا أحباءنا، تعرضنا للمجازر التي لا توصف، وعجزنا عن الحصول على أبسط احتياجاتنا: مياه نظيفة، طعام صحي، أدوية، مواد تنظيف، كهرباء، أو حتى أماكن آمنة للجوء. وكنّا مجبرين على الإخلاء المستمر، فلم نجد مكانًا لاحتضان آلامنا وحزننا.

عندما تتوفر المياه، يحمل أطفالنا ونساؤنا ورجالنا يوميًا بشق الأنفس جالونًا أو اثنين من الماء على أقدامهم، حتى يتمكنوا على الأقل من غسل أيديهم بكمية صغيرة جدًا من الماء، مُقتصدين بها للاستخدامات الضرورية

بعيون دامعة، وأجساد منهكة، وقلوب محطمة، نواجه هذه المعاناة، تقريبًا يوميًا، وعيوننا المستفسرة تحاول العثور على بصيص من النور للعودة إلى منازلنا والالتحام من جديد بأهلنا.

إحدى المآسي القاسية هي نقص المياه. أيام طويلة مرت علينا دون أن نجد شربة ماء، سواء كانت نظيفة أم لا.. كان أحدنا ربما يستحم مرتين في اليوم سابقًا، الآن قضينا عدة أشهر دون أن نتمكن من الاستحمام، وبالتالي اضطرت بعض النساء لحلق شعورهن بالكامل، في محاولة يائسة ومريرة للحفاظ على الحد الأدنى من النظافة.

إعلان

على المنوال ذاته، يعزز الاقتباس التالي من وليد سيف هذه المعاناة بطريقة أوضح:

"ذهبت الدار والتنّور والبئر الخاص الذي يملؤه ماء الشتاء، وصار على أهل المخيم أن ينقلوا الماء من الصهاريج العامة، أو الآبار التي تسقي المزارع، وأباحها أصحابها لأهل المخيم تقربًا إلى الله واحتسابًا، فكان على النساء أن يمشين مسافات ذهابًا إلى مصدر الماء، والعودة منها، مرتين أو ثلاث مرات في اليوم".

عندما تتوفر المياه، يحمل أطفالنا ونساؤنا ورجالنا يوميًا بشق الأنفس جالونًا أو اثنين من الماء على أقدامهم، حتى يتمكنوا على الأقل من غسل أيديهم بكمية صغيرة جدًا من الماء، مُقتصدين بها للاستخدامات الأكثر ضرورة.

سياسة التجويع التي تنتهجها إسرائيل ليست جديدة، ولا هي غير شائعة؛ إنها جزء من إستراتيجية مستمرة تهدف إلى محاصرتنا من كل جهة، سواء عبر الحصار الفعلي، أو عبر تدمير مصادرنا الأساسية للبقاء

وفقًا لدراسة حديثة لمنظمة أوكسفام، "يصل نصيب الفرد في غزة من المياه إلى 4.47 لترات يوميًا فقط"، في حين أن المعيار الدولي المقبول للحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة في حالات الطوارئ هو 15 لترًا، كما تقول منظمة مكافحة الفقر. ونتيجة لذلك فإن: "الخضرة شحّت لأن إسرائيل تسرق المياه منذ 1967. ورغم ذلك الخضرة تُقاوم".

في الوقت نفسه، دمرت إسرائيل أكثر من 75% من الأراضي الزراعية في غزة، مخلفة وراءها خرابًا شاملًا.. بعضنا يحاول الزراعة، لكن بلا فائدة. والوصول إلى المياه صعب، وإسرائيل تستهدف من يحاولون الزراعة بالقصف، ليتم القضاء على ما تبقى من إرادة الحياة.

كما أن سياسة التجويع التي تنتهجها إسرائيل ليست جديدة، ولا هي غير شائعة؛ إنها جزء من إستراتيجية مستمرة تهدف إلى محاصرتنا من كل جهة، سواء عبر الحصار الفعلي، أو عبر تدمير مصادرنا الأساسية للبقاء، وهدفها واضح: تحويل حياتنا إلى معركة يومية من أجل البقاء على قيد الحياة، لا أكثر. وعن هذا جاء في ترجمة جزء من كتاب "ضوء في غزة" لرفعت العرعير، التالي:

"بعد عملية الرصاص المصبوب التي شنتها إسرائيل (2008-2009)، والتي أسفرت عن مقتل ما يقارب 1,400 فلسطيني خلال 22 يومًا، أصبحت الحياة في غزة لا تطاق، حيث شددت إسرائيل قبضتها، وعدّت إسرائيل حرفيًا السعرات الحرارية التي دخلت إلى غزة. كانت الخطة هي إبقاء الفلسطينيين جائعين دون أن يصلوا إلى حد الموت. وقد تمّ حظر البريد، الكتب، الأخشاب، الشوكولاتة، ومعظم المواد الخام. كما جعلت الحرب عشرات الآلاف من الناس مشردين".

إعلان

لا دجاج، لا لحم، لا خضراوات، لا فواكه، لا مياه صالحة للشرب.. إسرائيل الآن لا تسمح بدخول شيء سوى الدقيق وبعض الأطعمة المعلبة، ومنذ مدة تزيد عن 11 شهرًا، ناهيك عن الأشهر التي لم نتمكن فيها من الحصول على الدقيق نفسه. فحدثت مجازر عند محاولة البعض للحصول عليه، قُتل خلالها المئات من الناس، ووصلت الأسعار إلى 1000 دولار لكل كيس دقيق. ومع كل تلك المجازر والغارات الجوية: "فالحقيقة الحزينة المؤكدة الآن هي أنني لم أعد أعرف جغرافيا بلادي".

لم نعد نعرف جغرافيا غزة وأماكنها. للأسف، لم نعد نعرف المكان الذي عشنا فيه طوال حياتنا، ولم نعد نتعرف عليه: كيف يمكننا ذلك بعد أن ألقت إسرائيل 75,000 طن من المتفجرات على قطاع غزة؟

مع مقتل أكثر من 42,000 غزّي وارتكاب مئات المجازر، أصبح الأمر وكأنّه حدث عادي. بالنسبة للعالم، أصبحت مشاهد آلاف الصور للأشلاء والجثث بلا أطراف أمرًا روتينيًا

ما يزيد الأمر شدةً هو أن إسرائيل تستخدم نوعًا معينًا من الصواريخ التي تشوه الجثث وتُفقدها هويتها أيضًا، حتى أصبحنا لا نعرف لمن تعود هذه الجثة. هذه القضية المأساوية، التي يتساءل فيها الناس عن هوية ضحاياهم، قد أشار إليها إبراهيم في الماضي، جاء في وصفه لهذه الوحشية التي طالت كل شيء: "لم يعرفه أحد، ثم عرفوه من ثيابه، هل الثياب أوضح من الوجوه؟‍‍!" [إبراهيم نصر الله- أعراس آمنة].. هنا، عرف الناس أقاربهم من ملابسهم وأيضًا من أسنانهم، سياراتهم، ومفاتيحهم. وأحيانًا، لم يعد بالإمكان التعرف عليهم إطلاقًا.

على سبيل المثال، في مجزرة التابعين، تحول أكثر من 100 شهيد إلى أشلاء، حيث وزن المسعفون 18 كيلوغرامًا من اللحم للأطفال و70 كيلوغرامًا من اللحم للبالغين، ثمّ وزعوه عشوائيًا في أكياس بلاستيكية على عائلات الشهداء دون أن يعرفوا إن كان اللحم يعود لأحد أفراد عائلتهم أو شخص آخر. وما يفاقم هذه المأساة هو اختفاء أكثر من 2000 جثة بالكامل. وبالتالي: "كان الموت قد أصبح مألوفًا" [سعاد العامري- بدلة إنجليزية وبقرة يهودية].

إعلان

مع مقتل أكثر من 42,000 غزّي وارتكاب مئات المجازر، أصبح الأمر وكأنّه حدث عادي. بالنسبة للعالم، أصبحت مشاهد آلاف الصور للأشلاء والجثث بلا أطراف أمرًا روتينيًا، ورؤية الجماجم كذلك كما حدث عند اجتياح مشفى الشفاء، أو مجرد قطع من اللحم كما في مجزرة مشفى المعمداني.. أصبحت – للأسف – أمرًا عاديًا.

في غزة، قد يفقد المرء جميع أفراد عائلته دفعة واحدة، فقدانهم تدريجيًا ليس أقل قسوة؛ فالبقاء على قيد الحياة في كلتا الحالتين يصبح جحيمًا.. كلمات مريد البرغوثي في "رأيت رام الله" تعكس هذا الشعور بالمعاناة الجماعية في الماضي. يكتب البرغوثي: "فمن السفاهة أن أشكو من مجرد شتات عائليّ أصابني، بينما لم تنجُ عائلةٌ فلسطينيةٌ في فلسطين أو في الشتات، من مصائب أشد وأقسى" [مريد البرغوثي- رأيت رام الله].

التاريخ يعيد نفسه بلا توقف، القصص تعدّ ولا تحصى، ولكن السؤال هو: هل سيكون هناك ما يكفي من الحبر لكتابة كل هذه القصص، وما يكفي من الورق لملئها؟

قل لي: كيف لنا أن نتحدث عن كيفية تدمير الحرب لمنازلنا وأيامنا وأماكننا، بينما هناك آباء يحملون رؤوس أطفالهم المقطوعة، أو يبحثون عن أجزائهم المفقودة؟ مثل الأب الذي كان يبحث عن رأس طفله قائلًا: "ابني أبيض وله شعر قصير، هل رأيتموه؟".. هذا ليس مقتطفًا من رواية خيالية، بل واحدة من العديد من قصص الآباء الثاكلين.

قل لي، كيف لنا أن نتحدث عن نهب أشخاصنا منا؟ عن سنة دراسية ضاعت من الطلاب؟ أو عن فقدان منحة دراسية، أو وظيفة جهدنا في كسبها؟ لا يمكننا.. يجب ألا نفعل، فسيكون هراءً بجانب الأب الشاب الذي فقد زوجته وتوأمه حديثي الولادة في غارة جوية إسرائيلية أثناء ذهابه لاستخراج شهادة ميلاد لهما، أو بجانب أي معاناة أخرى.

باختصار، التاريخ يعيد نفسه بلا توقف، القصص تعدّ ولا تحصى، ولكن السؤال هو: هل سيكون هناك ما يكفي من الحبر لكتابة كل هذه القصص، وما يكفي من الورق لملئها؟ وهل سيروي الرواة قصصهم وهم أحياء؟ وهل سيكون هناك ما يكفي من القوة لوصف هذه الأفعال اللاإنسانية؟ وهل ستنقل الكلمات حقًا ما نعيشه؟ هل ستنقل؟

إعلان

لا يمكن لأي قصيدة أو رواية أو مقال أو قصة أو خبر أو كتاب، أن يصف مقدار ما نُعانيه، أو أن يجعل القارئ خلف الشاشة يشعر بما نمرّ به.. ولكننا نصر على أن نروي قصتنا، نحن بحاجة لأن نُسمع، كلماتنا ستنطق وتقاوم حتى آخر نفس نستنشقه في حياتنا.

سيأتي يوم وتؤتي ثمارها.. نأمل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان