شعار قسم مدونات

عداد الزمن في غزة.. وأهوال الإبادة

جثامين الشهداء تصل إلى مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة
كيف يتحول شهداء غزة ذاك الكيان البشري الذي كان أملًا وسعادة وابتسامة جميلة في أعين شخص ما إلى رقم؟ (مواقع التواصل)

سأتركك مع مسألة حسابية قد تبدو بسيطة، أو على الأقل قابلة للحل: 24×400.. ما هو الجواب يا ترى؟ قد تعتقد أنه 9600، وذلك صحيح إلى حدٍ ما. الجواب هو 9600 بالفعل، لكن 9600 من ماذا؟ في الحقيقة، هي 9600 ساعة، لكنها ليست كأي ساعة.

هي 9600 ساعة من الدمار والدماء، والخراب والعناء، والشدة والضيق، والتهجير والمشقة، وشلالات الدماء والدموع والأشلاء المبعثرة، 9600 ساعة من الخوف والفقدان والقصف والجوع والتشريد والضياع وعدم اليقين والخذلان، عاشها سكان غزة لـ 400 يوم، عانوا خلالها من أكبر إبادة جماعية على مر التاريخ، من معاناة إنسانية مروعة دمرت الحياة في كل شبر من أرضهم، حولتها إلى واحة للدماء والقبور المتناثرة والصرخات المنتحبة، وصنفت جميع قاطنيها إلى ما لا يتعدى "قتلى" و"جرحى" و"مشردين" و"جائعين"، وكلهم يشتركون في فقدانهم لمظاهر الحياة الإنسانية.

ضحايا مجازر الاحتلال الصهيوني هم بشر، مثلي ومثلك، كانت الدماء تجري في عروقهم، وكان لديهم ذلك المكان المفضل، وذاك الحلم الكبير الذي نحلم بالوصول إليه بعد بضع سنوات، لم يختاروا أن يتعرضوا لهذه الانتهاكات الجسيمة

أكثر من عامٍ مرّ على الإبادة، قُتل فيه بعد أكثر من 400 يوم ما لا يقل عن 42,500 مدني، منهم ما يفوق 16 ألف طفل وطفلة، هذا إن افترضنا أن الأرقام المعلنة صحيحة (وذلك تاريخ تجاوزناه الآن، وعداد الضحايا يعطي اليوم أرقامًا جديدة).

وفي الواقع وبدون سفسطة في الحديث أو إضافة النكهات الدرامية، فإن كل هذه الأرقام لأعداد الموتى ليست أرقامًا، بل وراءها آلاف البشر، آلاف تتغلغل فيهم أرواح وأجساد، كل منهم كان لديه مأوى وروتين يومي وحياة وطموحات وأحلام وخطط ومستقبل منشود، كل رقم خلفه عشرات الأحبة الذين افتقدوه، كل رقم قام أبواه باختيار اسمه بعناية ودقة؛ لأنه كان يهمهما، وكانا يريانه إنسانًا يستحق الحياة والدراسة والعمل، وليس مجرد رقم سيُدفن جسده، ويُدفن معه مستقبله ويضيع معه اسمه دون مبرر.

إعلان

كل رقم بكت عليه أرقام كثيرة، كل رقم كان ينتظر لحظة محددة مثلي ومثلك تمامًا، ويتوق إليها، كان يخوض التجارب، ويحب الحياة، فهل من المعقول أن من قُتلوا في غزة هم 42,500 فقط، حسب الأرقام المشاعة؟ هل كل شخص يمثّل رقمًا فقط؟ هل من المفترض أن تتجسد أحلام وبيت وعائلة وحياة وقصص إنسان في رقم "1" ثم نجمع هذه الأرقام مع بعضها ليخرج لنا مجموع القتلى الذين ارتُكبت ضدهم إبادة جماعية؟ هل يسع الرقم "1" لكل ما يعنيه "الإنسان" و"الحياة"؟

كان ليكون ذلك منطقيًا لو كانت الأرقام تحمل في باطنها أي شيء إلا الإنسان، وضحايا مجازر الاحتلال الصهيوني هم بشر، مثلي ومثلك، كانت الدماء تجري في عروقهم، وكان لديهم ذلك المكان المفضل، وذاك الحلم الكبير الذي نحلم بالوصول إليه بعد بضع سنوات، لم يختاروا أن يتعرضوا لهذه الانتهاكات الجسيمة، وجرائم الحرب ضد الإنسانية وجرائم القتل والتشويه والإصابة والتهجير القسري، التي عانوا منها قبل أن يتحولوا إلى رقم "1".

فبأي حق يحولهم العالم إلى مجرد رقم بلا معنى؟ كيف يتحول ذاك الكيان البشري الذي كان أملًا وسعادة وابتسامة جميلة في أعين شخص ما إلى رقم؟ كيف يتحول هؤلاء الأطفال الذين كانوا بالنسبة لآبائهم فلذات أكبادهم وحياتهم وبهجتهم إلى أرقام؟ من يعدّ هذه الأرقام البشرية كلها؟ هل هي قابلة للعد؟ هل نعدها كما نعد أي مادة على وجه الأرض؟ هل لها آلة حاسبة مخصصة؟ هل من وجود لآلة تحصي الأرقام البشرية؟

العالم الذي تئن وتصرخ فيه الأحياء الملطخة بالدماء والمدارس المقصوفة والمكدسة بالنازحين والمستشفيات التي لم تعد تستوعب أعداد الجرحى تحت وابل الموت، ستظل على الحال ذاته مهما طالت الإبادة

ومع الأسف، حصيلة القتلى تلك لاتزال في ارتفاع مستمر، تولّد مزيدًا من "الأرقام"، مع تواصل آلة القتل الوحشية في سفك دماء الأبرياء وتعذيبهم وتهجيرهم، فيما يبقى آخرون في عداد المفقودين، أو المعتقلين، أو من يتمنون أن تُفتح المعابر لتلقي العلاج وتجنب بتر أقدامهم، أو من يأملون العثور على أشلاء أحبتهم، لكن مصيرهم مشترك؛ فهم إما رقم "1" يُضاف إلى مجموع القتلى، أو رقم "1" يُضاف إلى مجموع الجرحى أو المعتقلين أو المساكين، أو "المجاهدين" أو "حافظي شرف الأمة" وغيرها من الشعارات التي يرفعها من يدّعون الحكمة والنباهة والتديّن، والتي يريدون من خلالها بأي طريقة إخماد ضميرهم وإسكاته، وتبرير الخذلان والتواطؤ الذي يعاني منه سكّان القطاع.

إعلان

جميع "حافظي شرف الأمة" ستُمحى سيرهم وصورهم وأحلامهم وحكاياتهم، جميعهم سيصيرون وكأنهم لم يكونوا بيننا يومًا، ووسط كل هذا لن يحرك العالم ساكنًا، فالعالم الذي صمت بكل وقاحة عن إبادة امتدت لأطول من عام كامل، لأكثر من 400 يوم، سيصمت عنها في عامها الثاني، وعن غيرها من المجازر القادمة، والعالم الذي لم يحركه موت عشرات الآلاف من البشر طوال ما يزيد عن عام كامل لن يحركه موت أضعاف هذا العدد، والعالم الذي لم يجد قادته سوى الاستنكار والتنديد والاستياء و"الدعوة إلى وقف إطلاق النار" لن يفعل سوى ذلك في العام الثاني والثالث والعاشر من الإبادة.

والعالم الذي يناشد ويستغيث فيه الأبرياء المنكوبون بإنسانية العالم لأكثر من 400 يوم دون استجابة سيظل يناشَد دون جدوى، والعالم الذي تئن وتصرخ فيه الأحياء الملطخة بالدماء والمدارس المقصوفة والمكدسة بالنازحين والمستشفيات التي لم تعد تستوعب أعداد الجرحى تحت وابل الموت، ستظل على الحال ذاته مهما طالت الإبادة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان