يحتل التراث الديني مكانة مرموقة في المخيال الجمعي العربي لدرجة الارتقاء به إلى رتبة المقدس الذي لا يمكن المساس به، ناهيك عن نقده أو الشك فيه. ويشمل التراث تاريخ الإسلام المبكر، أي فترة الدعوة النبوية وفترة الخلافة الإسلامية.
لقد نشأ الإسلام وتكوّن في هذه الحقبة، وهو ما يمنحها قداستها لارتباطها الوثيق بالنبي محمد والدعوة الإسلامية، وما وقع من تدوين للقرآن وتواتر لأحاديث النبي، أي أنها بهذا المعنى مكمن الدين بتجلياته العملية المتمثلة في الدعوة والغزوات والعبادات، وصولًا إلى التدوين وتأويل النص القرآني وجمع الأحاديث بعد وفاة النبي. وبالتالي، كل ما يأتي من تلك الحقبة هو مسلمات وبديهيات لا نقاش فيها. وكل تشكيك في هذه المسلمات هو تشكيك في الإسلام ذاته.
يمتلك العقل السياسي العربي، حسب الجابري، ثلاثة محددات تنظم فعله السياسي، وتتمثل في ثالوث (العقيدة، والقبيلة، والغنيمة) التي تتجلى في كل مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي من زمن النبوة إلى الدولة العباسية
لم يسعَ المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1935-2010) إلى نقد هذه المسلمات؛ لأنه اعتبرها إيمانيات الناس التي يصعب نقدها أو التشكيك فيها، لكن ما كان يعنيه هو البحث في آليات اشتغال العقل العربي الذي هو نتاج لهذه الحقبة التاريخية.
ومثلت موسوعته "نقد العقل العربي" نقدًا لطبيعة هذا العقل التسليمية. لذلك كان هدفه تحرير العقل العربي من سلطة الموروث. وهذا لا يعني القطع معه لأنه يشكل جزءًا هامًا من تكوين هذا العقل، ولكن الغاية هي بناء عقل عربي يعكف على السؤال والبحث والنقد والتجريح، ويتكيف مع متطلبات الحداثة حاضرًا ومستقبلًا، دون القطع الكلي مع الموروث، ولكن بالتحرر من سلطته والانتقال من عقل تسليمي يخزن المعرفة إلى عقل متحرر ينتج المعرفة.
ومنطلق بحث الجابري هو الإشكال الذي طرحه المفكرون العرب عندما تعرضوا لصدمة حضارية تشبه إلى حد ما قصة ذلك الأرنب الذي نام في الطريق ثم تفاجأ بعد استيقاظه بالسلحفاة التي كانت خلفه قد أصبحت أمامه وتفوقت عليه.
إذ كان العرب منتشين بمآثر الماضي غير قادرين على صنع المزيد منها، بل فقط التحسر عليها. ولما كان العرب في غفوة الأرنب، كانت السلحفاة تجاهد نفسها للوصول، وكان الغرب يسائل نفسه ويحدث ثورة في كل المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية واللاهوتية. وعندما استيقظ المفكر العربي، تفاجأ باتساع الهوة بين العرب والغرب وبدأ التفكير في سُبل النهضة التي لم يكن طريقها خاليًا من العثرات؛ بسبب أغلال الماضي التي تعيق حركتها.
يمتلك العقل السياسي العربي، حسب الجابري، ثلاثة محددات تنظم فعله السياسي، وتتمثل في ثالوث (العقيدة، والقبيلة، والغنيمة) التي تتجلى في كل مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي من نبوة النبي محمد إلى حكم الدولة العباسية. وفي هذا إقرار ببدوية نشأة العقل العربي. وقبل البدء في تحليل، وجب الوقوف على معاني ثالوث (القبيلة، والغنيمة، والعقيدة) عند الجابري.
- القبيلة: هي كل جماعة تنتظم على أساس العصبية في مواجهة الجماعات الأخرى، ويمكن أن تكون قبيلة أو طائفة.
- الغنيمة: هي الكسب الذي يحصل بالقوة في الحالة البدوية، وتأتي عبر الغزو والنهب، وهي المحدد لميزان القوة.
- العقيدة: هي القوة التي تجمع العصبية وتوحدها على أساس الدين.
شكلت العقيدة القادح لاشتعال نيران الغضب القرشي، خاصة أن النبي الذي صدع بالوحي كان من صلبهم، وهو ما يجعل الأمر أكثر سوءًا من ناحية أن الثورة على الأصنام نشأت من قبيلة تهتم بهذه الأصنام
من الدعوة إلى الدولة (العقيدة)
تناول الجابري العقيدة التي تتمثل في الدعوة المحمدية من مظهرها السياسي، حيث ركز على ردود الفعل السياسية لخصومها المتمثلين في "الملأ من قريش"، وأشار إلى أن بعض المصادر التاريخية تؤكد أن الدعوة كانت ذات مشروع سياسي يسعى إلى إقامة دولة عربية إسلامية والاستيلاء على" كنوز كسرى وقيصر"(العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، الجابري، ص57).
غير أن الجابري يبين تحفظه إزاء هذه المصادر التي تجرد الدعوة من جوهرها وهو التوحيد، كما تجعل من النبي قائدًا عسكريًا ذا مطامح سياسية وليس حاملًا لرسالة سماوية.
يقول الجابري: "ليس في القرآن قط، وهو المرجع المعتمد أولًا وآخرًا، ما يفيد أن الدعوة المحمدية دعوة تحمل مشروعًا سياسيًا معينًا". (المصدر نفسه ص58) ولكن عدم اعتبار النبي قائدًا عسكريًا سياسيًا فقط عند المفكر، لا يمنع قراءته للدعوة قراءة سياسية، خاصة في لحظة عداوتها مع قريش التي تمثل الوجه الذي تتجلى فيه السياسة بوضوح في فترة الدعوة.
تعتبر قريش من أقوى قبائل العرب، انطلاقًا من كونها الراعية لحج العرب والمهتمة بالكعبة. وقد مرت الدعوة المحمدية بمرحلة مكة والمدينة كما هو معروف، ونزل القرآن منجمًا في كلتا المرحلتين. خاطب في البداية " يا أيها الناس" (نفسه، ص60) لدعوتهم حتى يؤمنوا بمحمد، أما في المدينة فكان الخطاب موجهًا إلى "الذين آمنوا"(نفسه، ص60). وبالتالي، فإن مرحلة التأسيس هي المرحلة المكية التي شهدت "جماعة روحية"(نفسه، ص60) من المستضعفين، لم يبدؤوا بعد بتكوين نواة الدولة، بل كان تركيزهم يصب في فهم "العقيدة". فالمشغل في البداية كان عقديًا إيمانيًا وليس سياسيًا.
وقد شكلت العقيدة القادح لاشتعال نيران الغضب القرشي، خاصة أن النبي الذي صدع بالوحي كان من صلبهم، وهو ما يجعل الأمر أكثر سوءًا من ناحية أن الثورة على الأصنام نشأت من قبيلة تهتم بهذه الأصنام، ومن ناحية أن النبي من القبيلة نفسها، أي أن خلفه قوة قبلية، ولم يكن من المستضعفين، مما لا قبيلة لهم أو من ضعفاء القبائل، وهو ما سيطرح العديد من التحديات.
سعت قريش في محاولاتها الأولى لإسكات النبي عما يدعو الناس إليه، بضربه من الناحية النفسية والسمعة الاجتماعية، إذ اتهمته بالسحر والكهانة والجنون كي يعدل عما يفعل، ولكن الوحي كان يشفي قلب النبي بآيات تؤكد نبوته وتدعوه للصبر. وفي هذه المرحلة أسلم مع النبي زوجته خديجة، ثم أبو بكر، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ثم التحق عمر بن الخطاب ونفر من المستضعفين.
والسؤال الذي طرحه الجابري في هذا السياق يتمثل في "كيفية تشكل وعي الجماعة الإسلامية الأولى وكيف شيد مخيالهم الجمعي السياسي من خلال التشبع بالعقيدة".
جاء القرآن بآيات الوعيد التي تصف الجنة والنار بشكل حي ومؤثر، بلغة فصيحة تفوق سجع الكهان وقصائد الشعراء. وكانت هذه الآيات بمثابة دعوة للنفوس لتتجنب النار وتتعلق بأماني الجنة، وقد مثلت هذه المرحلة التأسيسية السرية التي استمرت ثلاث سنوات، والتي تمحورت حول مبدأ التوحيد وأركان الإيمان.
وأجابت العقيدة الإسلامية عن أسئلة العديد من الناس حول مصيرهم بعد الموت، وأحدثت نوعًا من الاستقرار النفسي الذي افتقدوه مع عبادة الأصنام. كما ساهمت في خلق وعي جديد حول الحياة والموت، وكان المسلمون الأوائل، الذين كانوا مستضعفين، هم من انخرطوا في هذا الوعي الجديد.
وفي السنة الرابعة من بعثة النبي، أمره الله بأن يصدع بالدعوة علنًا، ومن هنا بدأ الصراع الحقيقي بين الدعوة المحمدية وقريش. وفي هذا السياق، يطرح الجابري سؤالًا مهمًا: "لماذا لم تقم قريش بقتل محمد أو التخلص منه منذ البداية؟".
كان النبي محمد ينتمي إلى "بني هاشم"، وهي قبيلة ذات مكانة كبيرة بين قريش، وبالتالي كان أي مساس به يعني المساس بمكانة القبيلة، الأمر الذي جعل قريش تتردد في الإقدام على إيذائه في البداية
من الدعوة إلى الدولة (القبيلة)
في هذا الفصل، يتناول الجابري دور القبيلة في الممارسة السياسية، سواء بشكل إيجابي أو سلبي. حيث بدأ بتناول تاريخ القبائل القرشية في مكة والفئات التي تشكلت فيها بعد الهجرة. يعود الجابري إلى تاريخ مكة السياسي، حيث بدأ بنسب النبي محمد إلى "قصي بن كلاب"، الذي يعتبر من أعيان قريش وكان قد أسس لها مكانة عظيمة في مكة.
ثم يستعرض الجابري نسب قريش، ويذكر أن النسب يمتد من "قصي بن كلاب" إلى "فهر"، الملقب بقريش، ويشمل العديد من الأجداد الذين ربطوا قريشًا بمكانة عالية في جزيرة العرب. حيث أصبحت قبيلة قريش من أقوى وأبرز القبائل في مكة بعد استيلاء "قصي" على مكة، وكان لها دور كبير في الإشراف على الكعبة وحاجات الحجاج.
كما يذكر الجابري كيف أن الصراع بين "عبد مناف" و"عبد الدار" على وظائف مكة، أدى إلى تقاسم السلطة بين أبناء القبيلة. ومن ثمة ينتقل إلى الصراع الكبير بين "بني هاشم" و"بني أمية"، الذي كان له تأثير كبير في مجريات الأحداث السياسية في الإسلام.
ويشير الجابري إلى أن هذا الصراع كان محوريًا في التاريخ الإسلامي، حيث شكل أساسًا للعديد من الفتن والنزاعات. أما فيما يتعلق بالدور القبلي في السياسة المكية قبل الإسلام، يوضح الجابري أن الشخص الذي ينتمي إلى قبيلة قوية كان محميًا من الأذى، لأن أي أذى يتعرض له سيؤثر على القبيلة بأكملها، مما قد يؤدي إلى حرب أهلية.
وكان النبي محمد ينتمي إلى "بني هاشم"، وهي قبيلة ذات مكانة كبيرة بين قريش، وبالتالي كان أي مساس به يعني المساس بمكانة القبيلة، الأمر الذي جعل قريش تتردد في الإقدام على إيذائه في البداية.
ويؤكد الجابري أن دفاع "أبو طالب" عن النبي كان أساسًا حمايته من قريش، رغم أنه لم يؤمن بدعوته. وكذلك، بدأت بعض الشخصيات القوية مثل "عمر بن الخطاب" و"حمزة" عم النبي في الدخول في الإسلام، مما أثار قلق قريش. وأدى ذلك إلى تطبيق سياسة المقاطعة ضد المسلمين، والتي استمرت نحو ثلاث سنوات.
بدأ صراع الأوس والخزرج بتحالفات القبائل اليهودية. ومع قدوم النبي انتقلت الدعوة من مرحلة الدعوة والصبر في مكة إلى مرحلة تأسيس الدولة والحرب وضرب مصالح قريش
ورغم المقاطعة، كانت هناك ثغرات قبيلية سمحت للمسلمين بالحصول على الطعام والمساعدات. من هنا، يتضح أن القبيلة كانت محركًا فاعلًا في السياسة المكية، سواء في حماية النبي ودعوته، أو في معاداتها تحت شعار "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب".
وإزاء هذا الوضع لم تتجرأ قريش على إيذاء أصحاب الدعوة ممن ينتمون لقبائل قوية اتقاءً لتفجير الوضع في مكة وحدوث "حرب أهلية". وهكذا ظلت الدعوة حية تحت سقف القبيلة الحامية والجوار، غير أن هذه القبائل التي ساندت الدعوة بفعل الجوار لم تكن تريد للدعوة أن تنتشر؛ لأن انتشارها يعني "بروز بني هاشم على بقية القبائل" ولا يمكن تجاوز هذه المعضلة إلا بتحطيم الجدار القبلي بقوة عسكرية، فالقبائل لا تطيع سوى القوي. ولكن هذه القوة العسكرية لا تتوفر إلا بالتحالفات التي لا تكون إلا لغاية سياسية.
وهذه هي ملامح تأثير القبيلة في المشهد السياسي في مكة، ولكن هنالك أيضُا مرحلة أخرى عاشتها الدعوة المحمدية تتمثل في مرحلة الهجرة إلى المدينة وتأسيس الدولة، لكن مجتمع المدينة كان أكثر تعقيدًا فقد جمع بين القبائل ليس فقط المختلفة في النسب، بل كذلك المختلفة في الملة، حيث سكنت يثرب قبيلتان يمانيتان هما "الأوس والخزرج " وكانوا في صراع إلى جانب القبائل اليهودية وأبرزها "بنو قريضة وبنو النضير وبنو قينقاع".
وقد بدأ صراع الأوس والخزرج بتحالفات القبائل اليهودية. ومع قدوم النبي انتقلت الدعوة من مرحلة الدعوة والصبر في مكة إلى مرحلة تأسيس الدولة والحرب وضرب مصالح قريش، وأمام أصحاب الدعوة وظيفة بناء الدولة من الداخل وممارسة السياسة مع قريش وضرب مصالحها من الخارج، وكانت أول عقبة واجهت النبي هي تنظيم عيش المهاجرين في المدينة وإقحامهم في جسمها الأكبر، ومن هنا جاء مصطلح "الإخوة في الدين"، حيث اعتبر النبي المهاجرين إخوة الأنصار (الأوس والخزرج ) في الدين يحق موارثة بعضهم البعض وحلت "الأمة’ و"الملة" مقام "العشيرة" و" القبيلة" أما بالنسبة لطريقة التعايش بين الأنصار والمهاجرين واليهود فهذا ما أقرته وثيقة "الصحيفة" التي أصدرها النبي.
وللحديث بقية..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.