شعار قسم مدونات

ميثودولوجيا الكتابة الأرسطية في كتاب الطبيعة (1)

أرسطو أول من ابتكر فكرة الحواس الخمس
أرسطو أول من ابتكر فكرة الحواس الخمس (شترستوك)

يندرج كتاب السماع الطبيعي لأرسطو ضمن كتبه الخمسة في العلم الطبيعي النظري، وهو العلم الذي يهتم بالأمور المعروفة في الطبيعة، أي الأمور التي يتحقق لنا العلم بها جزئيًا، وينصرف عن الأمور المعروفة عندنا، أي الأمور التي يحصل لنا العلم بها كليًا.

ومعنى هذا أن الجزئي هو الشيء الذي يخضع للحركة، وكل ما هو حركي فهو بالضرورة متغير، وكل ما هو متغير فهو كذلك؛ لأنه ينتقل من طرف إلى طرف ضده، ولا تجتمع الحركة والتغير في أي شيء آخر ما خلا المادة، وهي العنصر الذي يتفرق ويتحلل وينتشر، ويتكون ويفسد، فيصير كثيرًا بموجب تغيره، لأن تغير الشيء لا يعني فساده بالضرورة؛ ذلك أن كل تغير يحتوي في داخله على تكون، فكل الأشياء تتكون، لكننا إذا تعقبنا موضع انبثاق تكونها فستداهمنا الإشكالات النظرية العديدة، التي تداولها الفلاسفة الطبيعيون، وحاول أرسطو أن يحلها بتصفية أصلها.

ومن هذه الإشكالات: إذا قلنا إن العلم الطبيعي عند أرسطو هو علم بالجزئيات، لأنها تتوافق مع منطق التغير الذي يحكم الطبيعة، أفلا يتجه بنا هذا المنطق نفسه إلى القول إن الجزئي ينبجس من الكلي، وإن الكلي يتضمن الجزئي؟

وإذا كان الجزء متضمنًا في الكل، ألا يمكننا أن نقول إن الجزء والكل شيء واحد لا ينفصل، أم ذلك أكثر من واحد؟ وإذا افترضنا هذا وأذعنا له، فعلى أي جهة هما واحد أو أكثر من واحد؟

الإتيان بتصور جديد يقتضي الإحاطة بالتصورات السابقة حول الإشكال نفسه، خصوصًا إذا كان هذا التصور مبنيًا على نقض، فلا معنى لنقض تصور دون معرفة مجال موضوعه أو تفاصيل منهجه، ولا جدوى في تصور لم يتقصَّ آثار الأفكار والتصورات التي تطبع عصر نشوئه

منهجية أرسطو في السماع الطبيعي

حري بنا إذا أردنا أن نجيب عن هذه الإشكالات انطلاقًا من المتن الأرسطي أن نحتفظ بالمنهجية، التي يوظفها أرسطو نفسه في الإجابة عنها، ويظهر لفاحص كتاب الطبيعة – خصوصًا المقالة الأولى منه – أن أرسطو يدلف إلى أتون هذه الإشكالات بروية تامة، بحيث يطرح الموضوع أولًا، ثم يطفق في جرد الإشكالات النظرية التي ينطوي عليها، ويشرع بعد ذلك في عرض الإجابات التي أدلى بها الأقدمون على هذه الإشكالات، ولا يقتصر على ذكر تصوراتهم فحسب، وإلا كان ذلك ضربًا من ضروب السرد الفارغ والتأريخ الساذج، بل يدأب على إبانة العيوب الداخلية – أو لنقل بلغة معاصرة الأعطاب الإبستيمولوجية – التي يثويها منطقهم أو منهجهم، لا سيما استعمالهم للقياس، ليتسنى له أن يؤسس لتصوره على أنقاض تصورات سابقيه.

إعلان

فالإتيان بتصور جديد يقتضي الإحاطة بالتصورات السابقة حول الإشكال نفسه، خصوصًا إذا كان هذا التصور مبنيًا على نقض، فلا معنى لنقض تصور دون معرفة مجال موضوعه أو تفاصيل منهجه، ولا جدوى في تصور لم يتقصَّ آثار الأفكار والتصورات التي تطبع عصر نشوئه؛ لأن هكذا تصور لا يمكن أبدًا أن يحسم في جدل فلسفي ما لم يمتح من حركة الفكر المترددة، أو يغرف من معين المعارف الفلسفية المتمددة.

ولو أنّ أرسطو لم يتجاسر على العلم الطبيعي الذي تسلل إلى الأعمال الفلسفية والمنطقية، بالرغم من انصرام وقته مع الحكماء الطبيعيين، لبقي الاعتقاد بما أرسوه في العلم ساريًا منهجًا وموضوعًا، ولاستمرت بداءة العلم، ودليل الحسم في موضوعنا نستقيه من متن أرسطو نفسه حين قال: "وها نحن أولاء سنشرع في بيان أن الشك الذي وقع فيه المتقدمون وما وقعنا فيه نحن، يحل على هذا النحو وحده".

عن علم ما فوق الطبيعة أو الميتافيزيقا، فقد لمح أرسطو إلى أحد الإشكالات الأساسية التي لا يمكن الحديث عنها إلا في فضاء خارج عن الطبيعة، وهذا الإشكال هو: كيف يجوز أن يكون جوهر من غير جوهر؟

التدرج في عرض الموضوع

ذكرنا سابقًا أن العلم الطبيعي هو علم بالجزئيات، وتدرجنا من هذا المعطى لنبين مع أرسطو أن الجزئي هو كل ما يخضع للحركة والتغير والصيرورة؛ وبالتالي فالعلم الطبيعي هو علم بالحركة والتغير، ولأن الحركة تفرض وجود انتقال من حالة إلى حالة، من شيء إلى شيء، من وجود إلى لا وجود، من لا وجود إلى وجود، من حياة إلى موت، من موت إلى حياة، من كون إلى فساد، والعكس صحيح كله، فإن البحث لن يكون حول ما صارت إليه الأشياء، وإنما ما صارت منه الأشياء.

ولما كان هذا الذي صارت منه الأشياء من صلب الأشياء ذاتها، أي مكونًا لها (بكسر الواو) ومكونًا فيها (بفتح الواو)، بمعنى أن المبدأ الذي صارت منه الأشياء هو مبدأ داخل الطبيعة لا خارجها، فلو كان خارجها لانعطفنا إلى ما فوق الطبيعة، أي ما هو مفارق، وهذا مبحث مستقل عند أرسطو، لكن بعض جذوره تمتد في كتاب الطبيعة، فإن العلم هنا هو علم بالمبادئ أو الأستقسات أو الأسباب أو العلل الأولى.

إعلان

هذا التعريف الذي خصه أرسطو للعلم يواري مفارقات متعددة كامنة فيما سمّاه أرسطو بـ "مبدأ"، ذلك أن مبدأ الوجود كان محطَّ جدالٍ طويلٍ منذ الفلسفة الطبيعية، ولم يستطع أرسطو ولا أفلاطون قبله أن ينعتق من أسر هذا الجدال الذي شكل إبستيمي العصر، وانضوت تحت سلطته المعرفية مجموعة من المفاهيم المتنافرة والمتباعدة فيما بينها؛ فمفاهيم الثبات والوحدة والسكون تتعارض مع مفاهيم التغير والصيرورة والحركة والتعدد، وفي الوقت نفسه تتضارع معها في إذكاء منطق لفهم العالم، فكل وحدة مفاهيمية تساند تصورًا معينًا للوجود، أو بالأحرى لمبدأ الوجود.

وداخل كل وحدة هناك تعدد، وداخل كل تعددٍ تعددٌ، وهذا ما سيتفطن له أرسطو وهو يعود إلى أقوال الأقدمين، حيث عمل على تصنيفها وتقسيمها، فقال إن هذا المبدأ الذي نبحث عنه يكون واحدًا أو أكثر من واحد، فإن كان واحدًا فإنه إما غير متحرك – حسبما يعتقد بارمينيدس -، أو متحرك – سواء كان هواء كما يقول أناكسيمانس أو ماء كما يقول طاليس-.. وإن كان أكثر من واحد فإما أن يكون غير متناهٍ فيستلزم وحدة في الجنس واختلافًا في الشكل والصورة – وخذ في ذلك نموذج الذرات عند ديموقريطس- أو متضادًا، وفي هذا قول كثير، وإما أن يكون متناهيًا فيستلزم الكثرة في المبادئ الفانية أو الفاسدة.

وأغلب من يقولون بالثبات والوحدة يقتضبون أشياء كثيرة باطلة، ويمارسون الجدل أكثر من ممارستهم القياس والبرهان العقليين، ونظرهم في الموضوع ليس نظرًا طبيعيًا، لثلاثة أسباب؛ الأول أن الطبيعة يحكمها منطق الحركة، والثاني أنه لو كان المبدأ واحدًا وثابتًا لأمكننا إحاطته بالمعرفة، ولما احتجنا إلى الحديث عنه.

والثالث أن القول بالثابت اللامتناهي يقتضي القول بالكم، فإن اجتمع في الموجود الجوهر والكم فهو اثنان لا واحد، لأنه لا يمكن التعبير عنه إلا بمقولات تحمل عليه، بمعنى تضاف إليه، وكل إضافة فهي شيء يمكن إدراكه جزئيًا أو كليًا، فإن أدركناه جزئيًا فهي شيء خارجي، إذا أضيف إلى شيء آخر يصبح شيئين، حتى وإن كان لا يمكن الفصل بينهما، فهما على أية حالٍ شيئان اثنان.

إعلان

يتضح إذن أن نقد أرسطو سيكون موجهًا إلى المدرسة الإيلية ممثلة في شخصي الفيلسوفَين بارمنيدس وميليسوس، وقد ميز بينهما؛ فالأول يرى أن الوجود محدود، ويحدث في حاضر بلا زمان، وفق قياس مفاده أن كل ما هو خارج عن الوجود ليس بموجود، وما ليس بموجود ليس بشيء، والواحد والشيء يتعاكسان، وإذا تعاكس الشيء والواحد فكل واحد شيء.. والثاني يعتقد أن الوجود غير محدود كليًا وهو أبدي وفق قياس مفاده أن الموجود غير متكون، وكل ما ليس بمتكون فلا مبدأ له، فالموجود لا مبدأ له، وكل ما لا مبدأ له لا نهاية له، لأن سلب المبدأ وسلب النهاية واحد.

والنتيجة التي نخلص إليها انطلاقًا من القياسَين هي أن الوجود الحقيقي لا يمكن إدراكه إلا بالعقل، لأن الوحدة لا تظهر لنا في الطبيعة مهما حاولنا أن نستنبطها منها، فما يظهر لنا حقًا هو الفوضى والتعدد والتكاثف، وما يظهر لنا لا يمكن إدراكه إلا بالحواس، فهي القادرة على الإمساك بالجزئي، أما العقل فلا ينتبه له ولا يعتبره.

لذلك يقول أرسطو ردًا على الإيليين؛ إن الكلي أعرف عند الفهم والجزئي أعرف عند الحس، وهذا موضوع العلم الطبيعي.

أما عن علم ما فوق الطبيعة أو الميتافيزيقا، فقد لمح أرسطو إلى أحد الإشكالات الأساسية التي لا يمكن الحديث عنها إلا في فضاء خارج عن الطبيعة، وهذا الإشكال هو: كيف يجوز أن يكون جوهر من غير جوهر؟ وكيف يمكن أن يكون ما ليس بجوهر أقدم من الجوهر؟ وصرح بأن هذا الإشكال سيظل غامضًا في مجال العلم الطبيعي؛ لأنه لا يمكن تناوله بالاقتصار على الحواس، وإنما بالاعتماد على العقل كأساس لاستكناه العلل الأولى التي تختصّ بها الفلسفة الأولى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان