إن أفول عهد الثنائية القطبية في النظام العالمي بسقوط الاتحاد السوفياتي، وبروز عهد الهيمنة الأميركية، مثّل سقوطًا لكثير من نظريات العلاقات الدولية.
قد يكون مثل هذا القول متهورًا وفيه تجنٍّ بنظر كثيرين ممن يؤمنون بأن العلاقات بين الدول ما تزال تحتفظ بالعديد من أنماطها ونظرياتها الكلاسيكية، ومنهم أصحاب النظرية الواقعية في السياسة الدولية، وعلى رأسهم "كينث والتر"، الذي صاغ النظرية الواقعية في كتابه "نظرية السياسة الدولية- 1979".
وقد يكون هذا القول كلامًا عامًّا يفتقد إلى التأطير النظري والبحثي والمفاهيمي، بالنسبة لمنظّري الليبرالية والعهد الأميركي، وهو كذلك بالفعل.
منذ ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ورضوخ المجتمع الدولي لهيمنة القطب الواحد "الأميركي"، سعت الولايات المتحدة لاعتماد مجموعة من الدول الإقليمية الحليفة كنقاط ارتكاز لبسط نفوذها على العالم
والواقع أننا لسنا هنا في إطار الخوض في جدلية النظريات والتحقيق فيها، وترجيح بعضها على بعض، بقدر ما تعنينا محاولة إيجاد منفذ للحديث عن أطر ومشاهدات بدأت تبرز خلال الفترة القصيرة الماضية، كمتغيرات جديدة في العلاقات الدولية.
ويمكن اعتبار الحديث السابق مدخلًا استفزازيًّا أكثر منه تأصيليًّا لما نحن بصدد الكتابة عنه. والحديث المراد هو عما يمكن تسميته بـ"التحالفات الجزئية" أو "تحالف الملفات"، وهو نمط أصبح مشاهدًا بكثرة في العلاقات بين الدول، سواء على المستوى الإقليمي، أو على المستوى الدولي.
منذ ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ورضوخ المجتمع الدولي لهيمنة القطب الواحد "الأميركي"، سعت الولايات المتحدة لاعتماد مجموعة من الدول الإقليمية الحليفة كنقاط ارتكاز لبسط نفوذها على العالم، وأولتها بعض الملفات، وتركت لها أيضًا بعض المساحات – في نطاق النفوذ الجيوسياسي ومتطلبات الأمن القومي – لتملأَها بما يحقق في المحصلة المصلحة والهيمنة الأميركية.
وعلى صعيد الممارسات والنهج البراغماتي، ظل هذا النهج هو المتحكم والمسيطر على كل التفاعلات الدولية؛ إلا أن السنوات العشرة الأخيرة بدأت تشهد محاولات للقفز خارج السور المحيط بالهيمنة الأميركية المطلقة، وهذه المحاولات مردها في اعتقادي لثلاثة عوامل:
- الأول: متعلق بصعود الصين كقوة اقتصادية متسارعة النمو، ولديها رغبة – وإن كانت متأنية – في الخروج من عباءة النظام العالمي القائم، وتتحلى بمرونة كبيرة في نسج تحالفاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية شرقًا وغربًا.
- الثاني: له علاقة بالسطوة الأميركية التي ثقلت أعباؤها، وبدأت تتجلى فيها مظاهر الشيخوخة نتيجة عوامل كثيرة، بعضها بنيوية بينية لها علاقة بالداخل الأميركي، وما يقتضيه إحساس التفوق الهوياتي من نفقات اقتصادية، وأخرى خارجية فرضتها التحالفات المهمة، كما هو الحال مع إسرائيل وأوكرانيا، وما تطلبته حروبهما من إنفاق اقتصادي مهول قصم ظهر الموازنة الأميركية، وأخرى لها علاقة بالصيرورة والسياق التاريخي، إذ إنه لاهيمنة بلا نهاية لأحد.
- الثالث: – وهو الأهم في إيضاح سياق المقالة – فمتعلق باتساع أفق الدولة الإقليمية (المُرتكَز)، التي كبرت طموحاتُها، وتولد لديها شعور بأهمية البحث عن آفاق جديدة تلبي رغبتها وإحساسها بالقوة خارج الحدود المرسومة، وهي تستند هنا إلى عاملين اثنين مهمين؛ الأول هو أن عهد الهيمنة الأميركية المطلقة قارب على الانقضاء نظير المتغيرات الدولية التي أوردناها سابقًا، والثاني أنها ليست الوحيدة في محيطها، فالعادة أن الولايات المتحدة كانت تعتمد على أكثر من ارتكاز أو دور إقليمي في كل جغرافيا من العالم لتلبية مصالحها.
ومن هنا بالضبط، من هذه النقطة الهامشية ولدت ظاهرة أسميناها "سياسة تحالف الملفات" في العلاقات الدولية؛ إذ نلاحظ أن دولًا إقليمية مثل تركيا، ومصر، والسعودية – والاستشهاد هنا بدول شرق أوسطية – اتبعت هذه النُهج في علاقاتها، سواء في الإطار الدولي مع الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، أو في علاقاتها على الصعيد الإقليمي فيما بينها.
لعل الفترة الرئاسية القادمة للرئيس "ترامب"، التي ستدشن رسميًّا في العشرين من شهر يناير/ كانون الثاني، هدفها إعادة إحكام العلاقة مع بعض الدول التي لديها نزوع لتنويع تحالفاتها الإستراتيجية مع القوى الدولية
وبقليل من التركيز وتتبع بوصلة تحركات تلك الدول خلال السنوات العشرة الماضية، نجد أن لديها محاولات لخلق تحالفات نوعية، سواء مع الصين، أو مع روسيا، وتحاول المضي في هذا الاتجاه بحدود لا تبدو معها وكأنها خرجت من العباءة الأميركية. وكذا أيضًا في إطار التنافس وصراع النفوذ بينها، نجد أنها تتفق في ملفات، وتختلف وتتصارع في أخرى.
ونلاحظ أيضًا أن نزوعها لخلق التحالفات الدولية يكاد يكون خاليًا من أي اصطفاف ضد الولايات المتحدة، والسبب في هذا ربما يعود لإدراك هذه الدول أن مرحلة الهيمنة الأميركية ما تزال قائمة حتى الآن وإن طرأ عليها بعض الضعف، وأن المنافسين ليسوا جاهزين بعدُ.
وبالطبع، فإن تلك المحاولات محسوسة ومرصودة من الولايات المتحدة، بل لعل الفترة الرئاسية القادمة للرئيس "ترامب"، التي ستدشن رسميًّا في العشرين من شهر يناير/ كانون الثاني، هدفها إعادة إحكام العلاقة مع بعض الدول التي لديها نزوع لتنويع تحالفاتها الإستراتيجية مع القوى الدولية الفاعلة، والانضواء ضمن الأحلاف الدولية الجديدة، ولم يكن تصريح ترامب بأنه سيفرض رسومًا جمركية بنسبة 100% على الدول التي ستحاول استخدام عملة بديلة للدولار – وحديثه كان موجهًا لأعضاء منظمة البريكس – إلا إعلانًا للتوجه الجديد.
سيظل العالم يموج، ولن يتوقف تفكيره وسعيه للخروج من الهيمنة الأميركية، واكتساب مزيد من القوة والنفوذ بعيدًا عن كل النظريات والأطر
الشاهد في هذا القول إن واشنطن، التي لا تريد خسارة هيمنتها على العالم بأي حال من الأحوال، ستسعى خلال الفترة المقبلة إلى غلق أي مساحة مهما كانت هامشية تطل بها الدول، بعضها على بعض.
ولديها وسائل كثيرة لذلك، أكثرها بؤسًا أنها ستسعى لاستعادة القيم الأميركية المدفونة في أنقاض "غزة"، وستلوح مجددًا بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وغيرها من وسائل النفوذ السياسي في العهد الأميركي، ولا ضير أن تعهد بملفات لدول الارتكاز الإقليمية لكي تحصل على مزيد من النفوذ، ولكن تحت المظلة الأميركية.
ومع ذلك، سيظل العالم يموج، ولن يتوقف تفكيره وسعيه للخروج من الهيمنة الأميركية، واكتساب مزيد من القوة والنفوذ بعيدًا عن كل النظريات والأطر الموجودة، وسيظل المشتغل في شؤون السياسة والعلاقات الدولية دائمًا يلاحق الظواهر والتفاعلات، ويحاول أن يخلق أطرًا نظرية جديدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.