يركز هذا المقال على مسألة "عالمية اللغة العربية" ليجيب عن مكنون أسئلة قد تدور حول استحقاق هذه المنزلة، وجدارة نسبتها إلى العالمية بموقعها المتقدم بين أهم لغات العالم. فهو إذًا مقال موضوعي، هدفه إبراز الخصائص التي بموجبها يصح إثبات "العالمية" من خلال الوقوف على أهم مقومات سعتها وثرائها.
وقد وصف هذه اللغةَ كثير ممن صنف في بعض علومها بـ"البحر" أو "المحيط" لسعتها وعظم مكانتها، لما كان يلحظ من فيض الاتساع والغزارة في كل علوم العربية، وصدَّر عدد منهم عنوان كتابه بما يشير إلى هذه السعة مستعيرًا دلالات "البحر" لها، ومن ذلك كتاب "البحر المحيط في أصول الفقه" للزركشي، وكتاب "البحر المحيط في التفسير" لأبي حيان الأندلسي، وكتاب "مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار" لجمال الدين الهندي الفتني الكجراتي، وكتاب "الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار" لعلاء الدين الحصني الحنفي، وكتاب "البحر المديد في تفسير القرآن المجيد" للفاسي الصوفي.
ومنهم من وصفها بالمحيط وهو يعني البحر، منهم صاحب القاموس المحيط الذي قال: "وسميته القاموس المحيط؛ لأنه البحر الأعظم". وصحيح أن وصف اللغة بالبحر أو المحيط كان من باب الاستعمال المجازي والاستعاري، إلا أن وجه الشبه في اتساعها وعمقها لم يكن يخفى على أحد من علماء العربية، ولا من عامة أهلها.
فهذه "اللغة البحر" ولدت عالمية، بدليل أن الذين استعملوها أو اشتغلوا بها من أول يوم، وأثروا معارف العالم بها، لم يكونوا عربًا من أهلها جنسًا، بل كانوا من مشارق الأرض ومغاربها، في كافة العلوم والاختصاصات، ولم تكن لغة غيرها تصلح لصهر كل القوم في لغة واحدة وثقافة واحدة، فيها رسالتها للإنسان وتفكيره وقيمه ونتاجاته بغض النظر عن جنسه.
معاني كلمات تشتق من مئات الجذور مثل "زرق" و"بطل" و"عبق" و"ثور" و"توب" و"ثوب" وغيرها، مجتزأة متناثرة في لغات سامية عدة، إلا أن الجامع لها الموثوق به، إنما هو في نظير هذه الجذور المثبت في معجمات اللغة العربية الفصحى، ولغاتها ولهجاتها
واليوم، يمد هذه اللغة ما يقترب من نصف مليون متكلم، يتوزعون على خارطة واسعة من العالم، وتمدها مدونة للحضارة والتراث والمعارف، تمتد لعشرين قرنًا في عمق الحضارة والتاريخ، يتردد فيها ما يقترب من مليار كلمة وأداة وتعبير ومركب، فهي من أقدم اللغات الحية، لا تزال نقوشها ومخطوطاتها قبلة البعثات العالمية للحفر والتنقيب من قبل حملات مختلفة الاهتمام، لتغذية دراسات مختلفة الاختصاص، منها الآثار، والنقوش، وعلم الأناسة (الأنثروبولوجيا)، وعلوم البيئة والمجتمع، وعلوم الباليونتولوجيا، أو علم الأحياء القديمة، الذي يدعى أيضًا بالمستحاثات (Paleontology) في الجيولوجيا، ذلك العلم الذي يدرس حياة ما قبل التاريخ، ويشمل تطور الكائنات وعلاقاتها بعضها ببعض، وعلاقتها بالبيئة التي تعيش فيها؛ فاللغة العربية واحدة من أهم اللغات الباقية، التي تُتخذ حقلًا للدراسة والتنقيب بطلب وحث من علوم خاصة وبينية لتكون هذه اللغة وراء ثراء معارف العالم بأسره، لا معارف اللغة العربية وحدها.
وتمد هذه "اللغة البحر" مرجعية سماوية من خلال القرآن الكريم، وهي لغة رسمية معتمدة في الأمم المتحدة، رديفة ثلاث لغات تمثل شخصية العالم وهويته الحضارية بامتدادها وتاريخيتها.
ويمد هذه "اللغة البحر" احتياطي مخزون ضخم من المفردات، تكاد تكون قوائمها أطول بكثير من قوائم مفردات اللغات الخمسة العالمية مجتمعة.
وهي – أي "اللغة البحر"- تمن على علم اللغة المقارن بخير كثير، هذا العلم الذي يؤكد على حقيقة عالمية اللغة العربية، فلا تزال مؤلفات وأعمال بروكلمان وبرجشتراسر ونولدكه وجوزيف فندريس وولفنسون وألكسندر ستييتفيتش والأب مرمرجي الدومنيكي، وسواهم عشرات من المستشرقين عالميي الرؤية، كاشفة عن أهمية هذه اللغة – في بعدها العالمي- في تجسيد المشترك بين بني الإنسان وثقافاتهم وحضاراتهم القديمة والمعاصرة.
واللغة العربية هي الأخت الكُبرى الباقية للغات السامية المنقرضة استعمالًا، وهي مرجعية دائمة أساسية لعائلات اللغات السامية كلها، يلتمس فيها المندثر منها لحفظ أصولها، وإحيائها، ويستعان بها على تفسير ألفاظ توزعت بين الأخوات السامية للوصول إلى الأثل المشترك الذي به يوقف على المعنى المحسوس الأقدم تاريخًا في الاستعمال؛ فمعاني كلمات تشتق من مئات الجذور مثل "زرق" و"بطل" و"عبق" و"ثور" و"توب" و"ثوب" وغيرها، مجتزأة متناثرة في لغات سامية عدة، إلا أن الجامع لها الموثوق به، إنما هو في نظير هذه الجذور المثبت في معجمات اللغة العربية الفصحى، ولغاتها ولهجاتها.. فما هو السر وراء هذه القدرة (the competence)؟ ولِمَ تحظى بكل هذا الثراء والسعة؟
الخاصية الامتدادية عبر التاريخ كانت عنصرًا من عناصر تفوّق هذه اللغة، لأن اللفظ المعمر غير اللفظ الذي يولد حديثًا، من جهة أن الألفاظ التاريخية يسجل كل لفظ منها أحداث قرون متعاقبة، فمخزونه الثقافي والمجتمعي والتاريخي مخزون ضخم
هناك ثلاث خصائص مركبة وراء مقومات العالمية التي تملكها اللغة العربية..
أولًا: التاريخية والامتداد
ألفاظ اللغة العربية، عمومًا، ألفاظ معمرة، تعود أصولها المكتوبة إلى مئات السنين، وأصولها المندثرة (أو التي لم يكشف عنها) إلى آلاف السنين، تستوعب تاريخ حضارة مدونًا ومتواترًا يمتد على أحقاب تقدر بألفَي سنة؛ فألفاظ مثل "حياة" و"موت" و"حزن" و"فرح" و"سلم" و"حرب" و"رجل" و"امرأة" و"بيت" و"موطن" و"شَعْب" و"شِعْب" و"جبل" و"وادي" و"بحر" و"ليل" و"نهار" و"صديق" و"عدو" ألفاظ معمرة، عمر كل منها يناهز قرونًا طويلة ممتدة منذ أن ولدت، ولا تزال تعيش بيننا حية ترزق، تحتفظ بشكلها ومضمونها، لم ينقص شيء من مخزونها الثقافي والمجتمعي والتواصلي.. إنه من المدهش -حقًا- أن تجري على ألسنتنا ألفاظ استعملها أجدادنا قبل مئات السنين!
إن هذه الألفاظ كائنات معمرة، تعيش بيننا اليوم في كل بيت دون أن ننتبه أنها تكبرنا بألفَي عام، وربما أكثر من ذلك بكثير؛ فهي نافذتنا لعبور الأزمنة، وأداتنا لاستحضار الزمن السحيق وثقافاته المختلفة (على اعتبار أن كل لفظ يمثل ذاكرة أو مدونة صغيرة، تسجل لنا كل ما كان يدور بين اثنين أو جماعة، من مشاعر أو من حوار أو سجال أو مراسلات.. إلخ) ويندر أن يكون لغير اللغة العربية اليوم مثل هذه الخاصية الامتدادية التاريخية.
نعم، فإن الخاصية الامتدادية عبر التاريخ كانت عنصرًا من عناصر تفوّق هذه اللغة، لأن اللفظ المعمر غير اللفظ الذي يولد حديثًا، من جهة أن الألفاظ التاريخية يسجل كل لفظ منها أحداث قرون متعاقبة، فمخزونه الثقافي والمجتمعي والتاريخي مخزون ضخم.. كل لفظ من هذه الألفاظ يقوم مقام كتاب، أو فلنقل: إنه يقوم مقام مؤرخ يروي لنا أحداث التاريخ البعيد.
وكم هو عميق أن نجد أن كلمة "نسق"، التي استعملها زهير بن أبي سُلمى في الجاهلية، لا تزال تحتفظ بحرارتها وبطرازها الرفيع ومعناها العميق كأنها من كلمات عصرنا اليوم، حتى إن دارسي النسق والنسقية في الأدب اليوم لم يبتعدوا كثيرًا عما كان لهذا اللفظ في عهد زهير وهو يقول:
أفاحيص القطا نسق عليه كأن فـراخهـا فيه الأفـاني
إن الأشياء حينما تهرم وتكبر كل هذه السنين يظهر عليها أثر القدم والدهرية، إلا مثل هذه الألفاظ، فإنها لا تزال شابة غرة غير منحنية الظهر ولا متهلهلة من البلى. بل إن الألفاظ التي أدركتها سُنّة التطور والتحول لا تزال تحتفظ بحرارتها التي تستمد من أصولها؛ فانظر إلى كلمة "إحصاء" الوليدة اليوم وهي تحتفظ بأصل معناها المشتق من الحصى، و"الحكومة" (government) لا يغيب عن أحد أنها ترتبط بكلمات قديمة مثل "الحكم" و"الحكمة"، ولا يزال معنى "تثقيف الرمح" حاضرًا في لفظ "الثقافة" (culture)، وهذا لفظ "الزمالة" لا يزال له أصل، خيطه لم ينقطع في "الزملة" بمعنى الرفقة، ومنه قول شاعر يصف ناقته:
لم يمرها حالب يومًا ولا نتجت سقبًا ولا سـاقها في زمـلة حـادٍ
استوعبت هذه اللغة كل الحضارات التي تداخلت مع الحضارة العربية، كالفارسية واليونانية والهندية، طبعًا إلى جانب حضارات الشعوب القديمة التي ورثتها العربية وانصهرت فيها وصارت كلها جزءًا لا يتجزأ منها
ثانيًا: الغنى والثراء والاتساع
وهذه خاصية ثانية عجيبة، تزيدك عجبًا ودهشة، وهي مع الخاصية التاريخية من أسباب وصول لغتنا إلى رتبة العالمية واستحقاقها؛ بحيث تعتمد اللغة العربية على اثني عشر مليون كلمة بدون زيادات، تدور في مدونة بملايين المصادر المطبوعة، وجحافل المؤلفين والكتاب سال من أقلامهم مداد، لو مزج به ماء البحر لكان بحرًا من مداد، فخرج لنا منها تراث غني متنوع في مجالات لا حصر لها، في التراث الإسلامي والحضارة، والتاريخ، والاجتماع، والفلسفة، والمنطق، والأديان، والعلوم البحتة، والهندسة والطب والمناظير، ولك أن تحصي فلا يكاد يحصى كل ما وصل إلينا من معارف وعلوم.
وبهذا الاتّساع استوعبت هذه اللغة كل الحضارات التي تداخلت مع الحضارة العربية، كالفارسية واليونانية والهندية، طبعًا إلى جانب حضارات الشعوب القديمة التي ورثتها العربية وانصهرت فيها وصارت كلها جزءًا لا يتجزأ من هذه اللغة. كالآرامية والأكادية والسبئية والحبشية، وقد وفد إلى العربية بهذا التلاقح مئات الألفاظ التي احتضنتها العربية وطورتها، وهيأتها لنقل المعرفة من زمن إلى زمن ومن جيل إلى جيل.
وإذا كان التنوع البيئي والثقافي والتلاقح الحضاري (الحضارات المتداخلة مع العربية) من علامات الغنى والثراء في مستواه الفصيح، فإن مخزون اللغة العربية من لغاتها ولهجاتها وعاميها ليعدّ من أهم روافد هذا الاتساع والغنى، فلغات العربية ولهجاتها العامية – وإن لم يدون كثير منها- وسيلة من وسائل فهم النصوص، وعامل من عوامل بقاء الألفاظ واستمرارها، وفي محيطنا العربي مئات اللهجات العربية التي تغذي هذه اللغة، مثلما تغذي الأنهار مياه البحار، وإذا جفت منابع هذه اللهجات فهذا نذير ضعف اللغة الفصحى.
تملك العربية قائمة بحاضنات الألفاظ (الأصول الأثلية) من الجذر الثلاثي فقط ما بين 21000 إلى 24000 جذر، بناء على إحصاء رياضي فيه المستعمل والمهمل، أدت إلى انفجار ثقافي معرفي
ثالثًا: اللسان العربي المورفوفونيمي
ليس بجديد أن يقال إن لسان قوم يختلف عن لغتهم، وفي هذا كلام طويل، أعلاه سندًا قوله تعالى: {بلسان عربى مبين} [الشعراء: 195]، ثم قول محمد بن سلام الجمحي: "ما لسان حِمْير وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا".
واللسان – إذا أردنا تمييزه بشيء من الوضوح- هو ما يظهر لك من اختلاف في البنية الصرفية والصوتية بين لغة ولغة ولهجة وأخرى، حينما تنطق كلمة من لغة واحدة بعدة صور. فمثلًا: كلمات الأعلام (إبراهيم، وموسى، وعيسى) كلمات أعجمية، ولكنها تدخل في قوله تعالى في وصف كتابه العزيز أنه نزل {بلسان عربى مبين} [الشعراء: 195]، مع أن هذه الأعلام أعجمية الأصل، وليس فيها شيء من العربية، والسبب في ذلك أن هذه الألفاظ تعرت من سمات اللسان الذي كانت تنطق به قبل دخولها إلى العربية؛ فاسم النبي عيسى (عليه السلام) ينطقه بعضهم "جيزس"، فـ "جيزس" و"عيسى" اسم واحد لمسمى واحد، أصله اللغوي واحد وهو غير عربي، إلا أنه ينطق بلسانين مختلفين، لسان عربي يتفق مع تأليف النظام الصوتي والصرفي للغة العربية، تكوَّن مع تعريب هذا اللفظ، ولسان أعجمي ظل على حاله قبل التعريب.
والمتغير بين هذه النطوق من سمات صرفية ودلالية هو اللسان، والمشترك بينها هو اللغة (كونها من لغة أصلها واحد)، والأدوات، أي المورفيمات الدالة على التعريف (la) و (the) و(الـ)، هي أدوات تعريف في اللغات الثلاث، الفرنسية والإنجليزية والعربية تباعًا، وهذه الأدوات هي جزء من اللسان (النظام) الذي تتميز به لغة عن لغة، لكنها ليست جزءًا من المادة اللغوية التي تبقى ولا تتأثر كثيرًا بالنقل أو التعريب.
نعود إلى خصوصية اللسان العربي، لنشير إلى أن هذا اللسان المتمثل في الجانب المورفوصواتي morpho-phoneme هو لسان له خصائصه التي تتمتع بالثراء والمرونة والطواعية، التي تلحظ من خلال:
- الجذر (the toot):
حاضنة للعائلة اللغوية، وفيه رمزية لحميمية انتماء الألفاظ إلى الأسرة اللغوية التي تثوي داخل الجذر. كل كلمة تنتمي إلى أصل بنيوي، يشبه حاضنة أو أسرة بمثابة موئل (أثل بنيوي)، يفهم منه أن الكلمة العربية ليست منبتة الأصول، بل تقيم الكلمة الواحدة في علائق عضوية، وكل جذر يكون من عائلة واحدة على الأقل ألفاظًا واشتقاقات أخرى تنتمي إليه.
تملك العربية قائمة بحاضنات الألفاظ (الأصول الأثلية) من الجذر الثلاثي فقط ما بين 21000 إلى 24000 جذر، بناء على إحصاء رياضي فيه المستعمل والمهمل، أدت إلى انفجار ثقافي معرفي؛ فكل جذر يمكن أن ننتظر منه ألفاظًا ذات أصل (ثنائي- ثلاثي- رباعي) مثل (زل، زلل، زلزل) وكل جذر قابل للانشطار إلى بنيات ذات دلالات، تكون أسرة أو أسرًا جديدة لها صلة بالجذر الأصلي.
أغلب الألفاظ العربية إذا أُرجعت إلى جذرها فإنها تكون على حال اللسان العربي، الذي يميزها عن غيرها، والجذر يتمتع بالمرونة المقطعية التي تنشأ من حقيقة كون صوامت الجذر consonant مفصولة عن بعضها بالضرورة، بصائت (voile) قصير أو طويل، يشكل مع الصامت مقطعًا (syllable) من نوع (ص ح أو ص ح ح)، وهذه الخاصية تسمح بتطويع آلاف الألفاظ المولدة والمقترضة وإدراجها في النظام (اللسان) العربي لتنصهر بيسر وسلاسة، فلا يلحظ أنها تعود إلى لسان أجنبي عن العربية. وتعد وظيفة الجذر على أهمية قصوى في مسألة حفظ الأسرة اللغوية المشتقة منه، فلا تتعرض إلى الضياع والتشظي، والجذر بمثابة الحاضنة التي تعيش فيها أسرة لغوية بنية واشتقاقًا ومعنى، وهذا هو سر لطيف من أسرار حفظ ألفاظ اللغة العربية وحمايتها من الضياع.
على سبيل المثال: فإن الجذر "شرش" (وشرس لغة فيه) قد احتفظ بعائلته اللغوية ولم يفرط فيها، ومادتها في المعجمات غنية، وحينما يفقد أحد أفراد العائلة، مثل لفظ (أشرس)، فإننا نهتدي إليه بأخوته الباقين، والظرف "أشرس" على "أفعل" من ظروف المكان القديم، وقد غابت دلالة المبنى على الظرفية، ولكن معناه العميق الدال على أرومة الشيء أو صغره أو جذره باقٍ، وقد جاء في تاج العروس: (وأرض مشرسة وشريسة كثيرة الشرس والشرس بفتح الشين والراء ما صغر من شجر الشوك) "ولا يزال لفظ "الشرس" مستعملًا في حائل، وطيء، كتعبير عن "الأصل" أو "الجذر" فيقولون: شرس الرجل: أي، أرومته، وشرس الشجرة: جذرها" [ينظر: شرف الدين، أحمد حسين، اللغة العربية في عصر ما قبل الإسلام، ط 2، الرياض، 1985م. ص: 90]. وفي (المعجم اليمني): "وهذه الكلمة تذكر بأخ لهم من أبيهم أشار إليه الإرياني، هو (الشرس) وهو الأساس القوي المتين للبناء" [ينظر: مطهر الإرياني، المعجم اليمني في اللغة والتراث، الميثا للطباعة والنشر، 2012. ج/ 1 ص: 605].
- الأصوات (التنوع والغنى الفونيمي) أو الانشطار الفونيمي:
تتناوب ملايين الألفاظ العربية، بثمانية وعشرين صوتًا، هي مجمل أصوات اللسان العربي، وهي ليست قليلة، بل تعد العربية من صنف اللغات ذات الأصوات الكثيرة، وهذه الأصوات موزعة ومنتظمة في جميع مخارج الفم، فجزء منها في الحلق، وجزء في وسط الفم، وجزء في مقدمة الفم بين الشفوي والأسناني، وهذا التوزيع لخارطة مخارج الأصوات، يقف وراء أحد أسباب طواعية اللسان العربي، حيث يمكنه من التلفظ بأي لفظ يفد عليه من غير العربية.
وفي الغالب فإننا نعثر على مقابل لأي صوت لا يكون من اللسان العربي (الثمانية والعشرين)، فإما أن نعثر على مقابل الصوت ذاته مباشرة، أو نعثر على ما يقابله بإبدال فونيمي أو ألوفوني من أحد الصور المنتشرة حول كل صوت، فصوت "الهمزة" – على سبيل المثال- تتفرع منه صور ألوفونية منها صوت العين، وصوت "الجيم" تتفرع عنه أصوات منها (القاف المجهورة) التي يشبه نطقها نطق الجيم القاهرية أو جيم وسط اليمن، والجيم المعطشة وغيرها، وصوت "الزاي" يتوزع إلى صوت السين وصوت الصاد، فيستعان بهذا التناوب عند المقابلة بين صوت وصوت، كما حصل عند مقابلة (جيزس) بـ (عيسى) و(ديفد) بـ (داود)، و(فارادايس) بـ (بريد)، وأحيانًا تكون المقابلة تامة كمقابلة "أكسجين" بأكسيجين" فجميع أصوات اللفظ الأجنبية وجدت لها مقابلًا عند عملية التعريب والمقابلة.
وأما خاصية الانشطار الفونيمي، فلها أهميتها في المرونة المقطعية التي هي وراء طواعية اللسان العربي، لما يفد إليه من ألفاظ لغات أخرى عند مقابلتها باللسان العربي، مثل ألفاظ (تلفزيون، مول، أنستغرام، منطاد، برواز)، ومثلها مئات الألفاظ الأجنبية التي تقترضها العربية دون أن تتأثر هوية اللغة، خلافًا للغات أخرى ضعيفة، بمجرد أن تقترض مئات الألفاظ تغرق وتدخل في هوية الآخر، فتموت اللغة موتًا طبيعيًا وتندثر.
- الصيغة:
وهي قالب لساني تختص به الألفاظ العربية، وظيفته حفظ البنية المشتقة من "الجذر" في قالب، فالجذر بمثابة حاضنة للأسرة الاشتقاقية، بينما تكون الصيغة بمثابة حاضنة للفظ ولنظائره من الألفاظ التي تأتي على وزنه؛ فصيغة/ بنية "مفعال" على سبيل المثال، تأتي بما يغيب عن الذاكرة على هذه الصيغة من باب التوليد والقياس، مثل: "مفتاح" و"منشار" و"مسبار"… إلخ.
وللصيغة والجذر وظيفة في غاية الأهمية غير وظيفة حفظ الألفاظ والأسرة، وهي وظيفة توليد آلاف الكلمات لأغراض استعمالية مختلفة. وقد مكنت هذه الخاصية من اتساع رقعة الألفاظ وغزارتها لتستوعب بهذا التوسع تراث الإنسانية كله، وهذه الخاصية التوليدية لها إسهامها الواضح في تجسيد حقيقة عالمية اللغة العربية.
أدت الخصائص الثلاثة المذكورة إلى:
- تدفق ألفاظ ومصطلحات أجنبية إلى العربية، إذ دخلت في نظام اللسان العربي نطقًا وكتابة من اليمين إلى اليسار، لا يؤثر على هوية العربية بل تزيدها ثراء وسعة؛ بدليل أن الجوار مع بلاد فارس وتركيا والحبشة واليونان، وتدفق مفردات وثقافة من قِبَلها كلها بالمئات من الألفاظ، لم يؤثر على هوية اللغة العربية، بل زاد من فنونها وشجونها ووسع من إلهامها، وأصبحت العربية بيئة غنية تأوي إليها مفردات من أصول لغوية مختلفة، فتقيم في نظام العربية لمئات السنين، وتفقد مع مرور الوقت أصلها القديم بعد انتقال جميع سمات اللسان العربي إليها لتكتسب هويتها العربية الدائمة، وفي بعض الأحيان لم تعد اللغة الأصل التي انتقل منها اللفظ إلى العربية قادرة على التعرف على هذا اللفظ وأنه يمكن أن يكون منها.
- دخول ترجمات متعددة للفظ الواحد مثل: (لسانيات- ألسنية- ألسن) هو تنوع وإثراء، بخلاف ما يراه آخرون من أنه عامل من عوامل الاضطراب الذي دعا في مناسبات مختلفة إلى توحيد المصطلح، فكانت هذه الدعوات غير مجدية؛ لأن طبيعة اللغة وملكاتها تغلب على التغيير بالتدخل الذي لا يكون من طبيعتها، فاللغة -عمومًا- مكون عضوي أحيائي طبيعي، يعمل بطريقة أحيائية، تتعرض للموت والبقاء والتحول لظروف اجتماعية وبيئية، وقلما تستجيب للتدخل القسري.
العربية كيان ممتد في عنان السماء، ولها جذور ممتدة في باطن الأرض، وليست بحرًا بلا روافد، بل هُيِّئ لها من الروافد الدائمة ما كان كفيلًا بحماية هويتها وسيادتها
توسع مؤسسات اللغة العربية اليوم واتساع رقعة استعمالها:
تهيأ لهذه اللغة اليوم، وعكس ما يشاع عنها من ضعف وتراجع، عدد واسع من المجامع ومن مراكز البحث والهيئات والمؤسسات المهتمة بشؤون اللغة العربية، وعدد من المشاريع النوعية التي منها مشروع "معجم الدوحة"، الذي يشرف على إنجازه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وعدد واسع من المنصات الثقافية والعلمية، ومن الفضائيات التي تبث بالعربية، وعدد كبير من مواقع التواصل التي تتواصل باللغة العربية.
ويوجد إقبال كبير ومتزايد على تعلم العربية من الناطقين بغيرها، وهناك اهتمام عالمي منذ وقت مبكر كما أشرت، وحملات استشراق متعددة، كل ذلك ساعد في تطوير علوم الترجمة والذكاء الاصطناعي، لنبرهن بهذا كله على عالمية اللغة العربية، وأن رسالتها موجهة للإنسانية جمعاء، ومستمدة منها أيضًا.
ولا ننسى أن العربية كيان ممتد في عنان السماء، ولها جذور ممتدة في باطن الأرض، وليست بحرًا بلا روافد، بل هُيِّئ لها من الروافد الدائمة ما كان كفيلًا بحماية هويتها وسيادتها، ومن أهم روافدها اليوم:
- أرض ذات موارد بشرية وطبيعية تمتد من المحيط إلى الخليج.
- مجتمع واسع ومتنوع ثقافيًا واجتماعيًا ومعرفيًا.
- هوية ذات قيم راسخة.
- لغة تفكير وإنتاج وتواصل، تسجل الماضي والحاضر والمستقبل.
- إرث من اللغات السامية، حيث ورثت اللغة العربية كل النظام السامي تقريبًا، وصهرته في بيئتها وهويتها.
- روافد نشطة وواسعة من اللهجات، تتدفق في بحر هذه اللغة، وتزيدها ثراءً ونماءً.
- النقوش والمخطوطات، وما نعلم اليوم لغير اللغة العربية نقوشًا في الجبال وعلى الصخور، أو مخطوطات مدونة منذ آلاف السنين ولا يزال العلم يطلبها.
- طيف واسع من الآداب الشعبية والفلكلور الشعبي يمثل عادات مئات المجتمعات العربية وتقاليدها.
- الألفاظ الوافدة والمقترضة من لغات أخرى، وسبكت باللسان العربي.
ألا يحق بهذا لشاعر النيل الملهم حافظ إبراهيم أن يعبر على لسان اللغة العربية، فيقول:
أنا البحر في أحشـائه الدر كـامـن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.