في ذاكرة الشعوب، تحفر التماثيل مكانًا لنفسها كرمز للزهو بالسلطة، أو لاستعراض القوة أو لترسخ الهيبة والخوف.. ما تفعله هذه التماثيل طيلة زمان نصبها يتجاوز الرقعة التي وضعت عليها بكثير؛ فنشوة الشعب بإسقاطها في لحظات التحول التاريخي يعكس حجم الظلم والقهر الذي أذاقه صاحب التمثال لشعبه، فإسقاطها واحدًا تلو الآخر يُمثّل مشهد انهيار عروش الطغاة مرة بعد مرة.
في سوريا، لم تكن المعركة ضد قوة خارجية بقدر ما كانت نضالًا ضد نظام استبدادي سحق إرادة شعبه لعقود طويلة
وبينما يفصلنا عن إسقاط تمثال صدام حسين في بغداد أكثر من عقدين، نستحضر اليوم مشهد إسقاط تمثال الأسد في دمشق، فتتجلى أمامنا صورة واضحة لتناقضات المشهدين، ليس فقط في تفاصيل الحادثة، بل في دلالاتها السياسية والاجتماعية.
بغداد 2003: سقوط تمثال صدام تحت جنازير دبابة الاحتلال الأميركي
في التاسع من أبريل/ نيسان 2003م، كان العالم بأسره يتابع اللحظات التي أُسقط فيها تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد، كان المشهد دراميًّا، لكنه لم يحمل في طياته طابعًا شعبيًّا كاملًا، حيث كانت الدبابة الأميركية هي الفاعل الرئيس، يقودها جندي أميركي قَدِم إلى العراق كجزء من قوة غزو أجنبية، لا تحمل أيَّ شرعية دولية واضحة، ودخلت البلاد لتحقق أهدافًا أبعد ما تكون عن مصالح الشعب العراقي.
في تلك اللحظة، لم يكن إسقاط التمثال نابعًا من إرادة الشعب العراقي، بقدر ما كان جزءًا من استعراض القوة الأميركية.. فكانت الدبابة رمزًا للاحتلال، والجندي الذي أسقط التمثال ما كان باقيًا في بغداد حتى يعيش تبعات فعله؛ فقد كانت مهمته محددة ومؤقتة، ليعود بعدها إلى بلده، تاركًا العراقيين يواجهون مصيرهم في ظل الاحتلال والفوضى.
سقوط تمثال صدام حسين كان جزءًا من استعراض القوة الأميركية، بينما سقوط تمثال الأسد كان تعبيرًا عن رفض شعبي حقيقي للظلم والقهر
دمشق 2024: سقوط تمثال الأسد بيد الشعب
على النقيض مما سبق، يظهر مشهد إسقاط تمثال الأسد في دمشق تعبيرًا خالصًا عن الإرادة الشعبية، فلم تكن هناك قوة استعمارية تحرك الأحداث، بل كان الفاعل سوريًا بسيطًا، يقود جرارًا زراعيًا، رمزًا للحياة والعمل، هذا الشخص لم يكن جنديًا غريبًا يخطط للعودة إلى وطنه، بل كان ممن عاشوا معاناة الظلم والقهر تحت نظام الأسد، وهو ما يجعل هذا المشهد أكثر قربًا للروح الشعبية. وإسقاط التمثال في دمشق لم يكن مجرد فعل مادي؛ بل كان صرخة في وجه الاستبداد والظلم، ومحاولة من الشعب لاستعادة كرامته المهدورة.
هذا الفرق الجوهري يعكس طبيعة الصراع في سوريا، حيث لم تكن المعركة ضد قوة خارجية بقدر ما كانت نضالًا ضد نظام استبدادي سحق إرادة شعبه لعقود طويلة.
الفروق الدلالية بين المشهدين
الفاعل والدافع:
في بغداد، الفاعل قوة احتلال أجنبية تسعى لتحقيق مصالحها، أما في دمشق فالفاعل عربي سوري من أصحاب الأرض، يعبر عن ألمه وأمله في آنٍ واحد.
في نهاية المطاف تسقط التماثيل، لكن ذاكرة الشعوب تبقى شاهدة على من كان ظالمًا ومغتصبًا، ومن كان مقهورًا يناضل لاسترداد حقه
الرمزية السياسية:
سقوط تمثال صدام حسين كان جزءًا من استعراض القوة الأميركية، بينما سقوط تمثال الأسد كان تعبيرًا عن رفض شعبي حقيقي للظلم والقهر.
المآلات والتبعات:
بعد إسقاط تمثال صدام، دخل العراق في فوضى عارمة تخلّلتها طائفية وحروب أهلية، أما في الحالة السورية فإسقاط التمثال قد يكون بداية مرحلة جديدة تحمل معها أمل التغيير رغم الصعوبات كلها.
التاريخ يكتب من جديد
بين بغداد ودمشق فصلان مختلفان من فصول التاريخ؛ ففي الأولى كانت يد الغريب هي التي أسقطت التمثال، بينما في الثانية كانت يد ابن البلد نفسه.. المشهدان يعكسان طبيعة الصراعات التي تخوضها الشعوب، ولكن الفرق الأهم يكمن في أن النضال الحقيقي لا يولد إلا من رحم المعاناة الوطنية.
في نهاية المطاف تسقط التماثيل، لكن ذاكرة الشعوب تبقى شاهدة على من كان ظالمًا ومغتصبًا، ومن كان مقهورًا يناضل لاسترداد حقه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.