مع تتابع السنين وجريان الأيام، يستذكر الفلسطيني في كل عام ذكرى تنكأ جراحه الكامنة، لتروي تفاصيل واحدة من مآسيه المتعددة، والتي توالت عليه بعد نكبته الكبرى عام 1948، وضياع فلسطين التاريخية على إثرها، وقد تجرع من قبلها ويلات الاحتلال البريطاني، بالإضافة إلى خسارة ما تبقى من بلاده في حرب يونيو /حزيران عام 1967.
نشأ مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في بيروت الشرقية عام 1949، بعد نكبة عام 1948؛ وذلك لاستضافة اللاجئين من سكان مدن الشمال الفلسطيني، الذين هجّرتهم العصابات الصهيونية بقوة السلاح آنذاك
لتجتمع تلك الأسباب وتدفعه إلى الخروج رغمًا عنه من بياراته وأرضه التي عاش وترعرع عليها، ليقاسي صنوفًا من الهوان والعذاب وضنك العيش والحسرة، بعد كل ما جرى له إبان تلك الفترة الحرجة من تاريخه، أي لتثقل جراحه وتزداد جرحًا آخر، ما يمثل استمرارًا لمشاهد هذه التراجيديا الحزينة.
حديثنا اليوم هو عن مخيم الصمود والأسطورة، المخيم الباسق الذي أبى الركوع إبان حرب التجويع التي مورست عليه، المخيم الرمز الذي تشع هالته نورًا وبهاء بالدماء، ذاك المخيم الذي يحمل في طياته أسمى معاني السمو والإباء.
المخيم الذي جسد ببسالته وبكبريائه وهوان الأعداء عليه دروسًا في العزة والرفعة مهما سلط الفاشيون عليه من مظالم، وروى قصة مأساة طالته وقت السلم بفعل يد الغدر التي لم تنل منه أثناء جبروته وعنفوانه.. فالراحة والخلود الأبدي لشهدائك، وللأبطال المغاوير الذين هبوا لنصرتك واستبسلوا في الدفاع عنك.
نشوء المخيم وموقعه
نشأ مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في بيروت الشرقية عام 1949، بعد نكبة عام 1948؛ وذلك لاستضافة اللاجئين من سكان مدن الشمال الفلسطيني، الذين هجّرتهم العصابات الصهيونية بقوة السلاح آنذاك، وقد كانت مساحة المخيم تعادل كيلومترًا مربعًا واحدًا؛ أي حوالي 56 دونمًا، وهو يقع على تخوم منطقة صناعية، فكان تجمعًا يلتقي فيه الفلسطينيون مع مجموعات أخرى من الطبقة الكادحة من اللبنانيين ومواطنين من الجنسيات الأخرى التي استقرت ضمن إطار المخيم، حتى قدرت أعداد القاطنين فيه بحوالي 30 ألف نسمة.
الأوضاع في لبنان قبل الحرب الأهلية
استضاف لبنان أكثر من 100 ألف من اللاجئين الفلسطينيين إبان حرب النكبة، توزعوا على المدن اللبنانية ومخيماتها الخمسة عشر، ومنها مخيم تل الزعتر، حيث كان مكان استقرارهم – المؤقت حسب اعتقاد الجميع- ريثما تتبدل الأحوال ويحين موعد عودتهم إلى ديارهم.
وقد عاش الفلسطينيون في لبنان وسط ترحيب شعبي بهم، كنوع من التضامن معهم؛ بسبب ما حل بهم من لجوء وتهجير، وقد استمر ذلك الترحيب إلى حين حدوث الاضطرابات الداخلية اللبنانية عام 1958، والتي حصلت كتداعيات للحرب الباردة آنذاك، وقد أمر الرئيس اللبناني فؤاد شهاب على إثر تلك الاضطرابات بوضع المخيمات الفلسطينية تحت سلطات المخابرات العسكرية أو ما يسمى بـ"المكتب الثاني".
وقد مارست المخابرات العسكرية سياسات تعسفية وأحكامًا عرفية، هدفت إلى التنكيل بالفلسطينيين وتضييق سبل العيش عليهم، حيث لم يتم السماح بتنقل الفلسطينيين إلى المخيمات الأخرى دون الحصول على تصريح، وقد تم منع قراءة الجرائد في الأماكن العامة، ومنع البناء أو إصلاح المنازل دون الحصول على تصريح متعسر الإجراءات، بالإضافة إلى قرار حظر التجوال بعد الساعة العاشرة ليلًا.
وقد استمرت سلطة المخابرات العسكرية على المخيمات الفلسطينية إلى حين اندلاع مواجهات مسلحة، وما يشبه الثورة غير المعلنة من الجانب الفلسطيني على الحكم التعسفي المجحف بحقهم، إلى أن تم توقيع "اتفاق القاهرة" عام 1969، بين رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات وقائد الجيش اللبناني، حيث شرعن الاتفاق الوجود الفلسطيني المسلح على الأراضي اللبنانية، وقد أتاح الاتفاق لهم إدارة شؤونهم ومخيماتهم، وبدء انطلاق العمليات العسكرية ضد الاحتلال الصهيوني، وذلك بالتنسيق مع الجيش اللبناني.
وقد تأججت المشاعر المعادية للفلسطينيين في الأوساط المسيحية بعد اتفاق القاهرة، بالتزامن أيضًا مع بدء محاولات اليمين المسيحي اللبناني على غرار (حزب الكتائب، مليشيا حراس الأرز، مليشيا تحرير زغرتا، مليشيا النمور) التدريب والتسليح العسكري، وقد أدت هذه المنعطفات لتحول لبنان إلى برميل كبير من البارود الذي ينتظر شرارة الاشتعال.
إبان الحرب الأهلية حصار قاسٍ.. وقصة صمود
في 13 من شهر أبريل/ نيسان من عام 1975، أشعلت حادثة عين الرمانة (بوسطة) نيران الحرب الأهلية، والتي استهدف فيها مسلحون من حزب الكتائب اللبناني حافلة كانت تقل فلسطينيين من مخيم تل الزعتر، وذلك إبان عودتهم من احتفال وطني في مخيم صبرا، وقد استشهد على إثر الهجوم حوالي 27، وأُصيب العشرات، ما أدى إلى اشتعال المواجهات بين مليشيات اليمين المسيحي اللبناني (والمسمى بالقوات الانعزالية) من جهة، والفلسطينيين وحلفائهم من جهة أخرى، والتي امتدت إلى أنحاء أخرى من التراب اللبناني.
بحلول عام 1976، أصبح تل الزعتر الجيب الفلسطيني الوحيد خارج سيطرة القوات الانعزالية في بيروت الشرقية، ولذلك خضع المخيم لحصار من جانب المليشيات اللبنانية في يناير/ كانون الثاني 1976، وما لبث أن تحول الحصار على المخيم إلى هجوم عسكر
وقد شملت الحرب تدخل أطراف أخرى محلية ودولية، ونشوء تحالفات وتقلبات في موازين القوى والتحالفات، وعلى إثرها استمرت دوامة العنف إلى حين التوصل إلى اتفاق الطائف عام 1989، والذي معه وضعت الحرب أوزارها، وانتهت آنذاك سلسلة العنف التي مزقت لبنان طيلة خمسة عشر عامًا.
بحلول عام 1976، أصبح تل الزعتر الجيب الفلسطيني الوحيد خارج سيطرة القوات الانعزالية في بيروت الشرقية، ولذلك خضع المخيم لحصار من جانب المليشيات اللبنانية في يناير/ كانون الثاني 1976، وما لبث أن تحول الحصار على المخيم إلى هجوم عسكري، بعد مضي حوالي 10 أيام من دخول الجيش السوري الحرب بقيادة حافظ الأسد إلى جانب القوات الانعزالية، في حين أننا إذا قابلنا الموضوع من الناحية النظرية فسنلاحظ تفوق المهاجمين من القوات الانعزالية في العدد والعتاد، ورجحان كفتهم على نظرائهم من المدافعين عن المخيم من الفلسطينيين.
وفي 22 يونيو/ حزيران من عام 1976، بدأ الهجوم، وتعرض تل الزعتر لقصف مدفعي عنيف، حيث وصل عدد القذائف الصاروخية في نهاية اليوم الأول للهجوم إلى نحو 8.000 قذيفة، ما أدى إلى دمار واسع وخسائر جسيمة في بيوت اللاجئين والمرافق والبنى التحتية للمخيم.
وخلال الهجوم عملت القوات الانعزالية على نسف أنابيب المياه التي تزود المخيم باحتياجاته المائية، ما أدى إلى تفاقم المأساة التي جلبها الحصار، وليصبح مصدر المياه الوحيد في المخيم هو البئر الارتوازية بجوار المستشفى، الذي كان شاهدًا على قصص مأساوية راح ضحيتها العديد من الضحايا، وخصوصًا من الأمهات اللائي بذلن أنفسهن لإنقاذ صغارهن العطاش، ليرحن في ساعات الفجر ضحايا لرصاص القنص الغادر، الذي لم يرحم محاولاتهن لإبعاد أبنائهن عن شبح الجفاف، ليلقبن بـ "شهيدات الماء" كشاهد وتذكار على تلك التضحيات السامية.. وتتنوع أساليب الموت التي تجرعها أهالي تل الزعتر ما بين الموت من القذائف أو من العطش أو بالقنص.
ومع اشتداد الحصار نفدت المعلبات التي داوم عليها الأهالي كسبيل للعيش طيلة الفترة الماضية، ليحل مكانها العدس كمصدر وحيد للغذاء بعد انتهاء الطحين، والغياب شبه التام للمواد التموينية، وتفاقم أزمة المياه وصعوبة الحصول عليه، ليصبح الصمود هو خيار أهالي تل الزعتر الوحيد لمواجهة ذلك الحصار.
فقد رفضت القوات الانعزالية أي هدنة أو أي محاولة لإنهاء الحصار؛ وذلك لقناعتهم بجدوى الحل العسكري مع وقوع المخيم تحت حزام من المناطق المسيحية، فبالتالي هو بحكم الساقط عسكريًا.
وكان هناك سبب آخر وراء ذلك التعنت، وهو تواجد القوات السورية على الأرض إلى جانب القوات الانعزالية؛ والتي ستمنع أي محاولة من الفلسطينيين والحركة الوطنية اللبنانية لفك الحصار عن المخيم.
تخلدت قصة تل الزعتر في الذاكرة الفلسطينية كقصة أسطورية سطرها الأبطال بدمائهم الطاهرة، وباستبسالهم ودفاعهم المستميت عن ثرى المخيم، فقد وقف الأبطال بأسلحتهم الفردية وبأعدادهم القليلة وبعزيمتهم التي لا تلين دون خوف أو كلل أو ملل أمام أرتال العدو
وقد تلقت القيادة الفلسطينية طلبًا للاستسلام تجنبًا لحدوث مذبحة بين المدنيين عند دخول تلك المليشيات للمخيم، وهو ما رفضته القيادة الفلسطينية انسجامًا مع الرفض الشعبي داخل المخيم لفكرة الاستسلام، حيث لم تكن هذه الكلمة واردة في قاموسهم في ذلك الحين، وكان تفضيل المواجهة على الاستسلام لحين تحقيق النصر أو الموت.
يوم المجزرة الأسود
وفي يوم 12 من شهر أغسطس /آب من عام 1976، سقط مخيم تل الزعتر بيد المليشيات الانعزالية بعد صمود واستبسال طيلة 52 يومًا من القصف الشديد، وبعد التصدي لأكثر من سبعين هجومًا بأسلحة فردية ومتوسطة، وبعد تدمير البنى التحتية للمخيم مع تعرضه للاستهداف بأكثر من 55.000 قذيفة في القصف الهمجي طيلة أيام الحرب، وجابه الأهالي في تلك الأيام حروبًا عدة، منها حرب التجويع والتعطيش، وكل ذلك في ظل حصار غير إنساني خانق.
عندها، وافق طرفا الصراع على قرار يتضمن إخراج الأهالي من النساء والأطفال من المخيم عبر الصليب الأحمر، تحت إشراف قوات الردع العربية، ولكن ما حدث هو أن القوات الانعزالية لم تحترم الاتفاق وغدرت به، حيث مارست تلك المليشيات انتهاكات جسيمة مشينة بحقد وقلب أسود بحق أهالي تل الزعتر الأبرياء، جزاء لهم على صبرهم وتحملهم عذابات الحصار والقصف طيلة أيام المعركة.
وتنوعت تلك المجازر الوحشية البشعة التي يندى لها جبين الإنسانية بين الإقدام على إعدامات ميدانية بحق الأهالي، ومن بينهم النساء والأطفال، والاختطاف القسري لهم وتغييبهم عن ذويهم دون ترك أثر، والبقر اللاإنساني لبطون الحوامل، والتنكيل بجثامين الشهداء في جريمة متكاملة الأركان ومجزرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكل ذلك دون حسيب أو رقيب، وتحت أنظار المجتمع الدولي الذي بقي متفرجًا على ما يحصل من جرائم.
راح ضحية تلك المجزرة الفاشية حوالي 3.000 شهيد و6.000 جريح، معظمهم من المدنيين، حيث لقي نصف العدد من الشهداء حتفه خلال الحصار، والنصف الآخر إبان المجزرة الشنيعة التي تلت الهجوم.
وخلال المعركة اقتصرت سبل الإسناد من خارج المخيم المحاصر على إدخال مجموعات صغيرة من المقاتلين إلى داخل المخيم، بالإضافة إلى القيام ببعض الهجمات من هنا وهناك لكسر الحصار عن المخيم، وهو – بالطبع- لم يكن على قدر من الكفاية لمنع حدوث المجزرة، واستيلاء القوات الانعزالية على المخيم.
جزء من اللوم والمسؤولية يُلقى على عاتق القيادة الفلسطينية، حيث افتقرت القيادة إلى إستراتيجية جوهرها حماية المخيمات الفلسطينية وسكانها أثناء المعركة وبعدها خلال معارك الحرب الأهلية اللبنانية، فأدى ذلك العجز إلى سقوط الآلاف من الضحايا الفلسطينيين الأبرياء في مجازر يندى لها جبين الإنسانية على غرار مجزرة صبرا وشاتيلا 1982، ومجزرة تل الزعتر عام 1976.
تل الزعتر اليوم
بعد الهجوم، قامت البلدوزرات التابعة للمليشيات اللبنانية بإزالة ركام المخيم المدمر ومحوه عن الوجود، وعند انتهاء الحرب لم تسمح الحكومة اللبنانية بإعادة بنائه، ما حتم على اللاجئين الفلسطينيين الاستقرار في مخيمات أخرى في عموم لبنان.
تخلدت قصة تل الزعتر في الذاكرة الفلسطينية كقصة أسطورية سطرها الأبطال بدمائهم الطاهرة، وباستبسالهم ودفاعهم المستميت عن ثرى المخيم، فقد وقف الأبطال بأسلحتهم الفردية وبأعدادهم القليلة وبعزيمتهم التي لا تلين دون خوف أو كلل أو ملل أمام أرتال العدو، وتحشداته العسكرية التي تفوقهم كمًا وعددًا ونوعًا، ورحلوا عن عالمنا بعد أن تشبثوا وناضلوا لأجل أسمى الأماني وأطهرها، ألا وهي الموت فداء للمخيم ودفاعًا عن أهله، فكان لهم ما أرادوه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.