شعار قسم مدونات

هل تكون جباليا ستالينغراد فلسطين؟

تدمير دبابة إسرائيلية من نوع "ميركفاه" بعبوة "شواظ" شرق جباليا شمال قطاع غزة
تدمير دبابة إسرائيلية من نوع "ميركفاه" بعبوة "شواظ" شرق جباليا شمال قطاع غزة (مواقع التواصل الاجتماعي)

"مقاومو جباليا يفضلون الاستشهاد على الاعتقال ولا يستسلمون".. بهذه الكلمات عبر قائد لواء غفعاتي عن ضراوة وشراسة معركة جباليا الثالثة التي تدور رحاها هذه الأيام، والمستمرة منذ 70 يومًا مع الحصار المطبق.

وعلى مدار العقود الأربعة الماضية، صمد مخيم جباليا أمام أعتى حملات الجيش الإسرائيلي، متحولًا إلى رمز للاستعصاء والانتماء الفلسطيني الذي لا يعرف الانكسار.

في عام 2004، شهد المخيم واحدة من أبرز معاركه، حين قاد الشيخ نزار ريان معركة  "أيام الغضب"، التي قابلت العملية الإسرائيلية "أيام الندم" تحت شعار التحدي الأول: "لن يدخلوا معسكرنا"

وفي ظل المعركة الراهنة التي يشهدها المخيم يمكن استحضار معركة ستالينغراد التاريخية، التي قلبت موازين الحرب العالمية الثانية، إذ انكسر الألمان وانهزموا بعد صمود المدينة السوفياتية الذي أثقل كاهلهم، فالمخيم الصغير الذي لا تتجاوز مساحته 1.5 كيلومترمربع في شمالي قطاع غزة قدّم -حسب المصادر الطبية الفلسطينية- أكثر من 4000 شهيد ومفقود منذ بداية الحملة الحالية، علاوة على أكثر من 10 آلاف جريح، و1700 معتقل، إلا أن المقاومة ما زالت تتصدى لجيش العدو ببسالة واقتدار، فهل تكون جباليا ستالينغراد فلسطين؟

صمدت ستالينغراد، وخاض مقاتلو الجيش الأحمر السوفياتي بقيادة ستالين سبعة أشهر متواصلة أمام الغزو الألماني بقيادة أدولف هتلر، انتهت بانكسار الغزاة، وكانت أول هزيمة كبرى للألمان في الحرب العالمية الثانية، استخدم فيها السوفيات تكتيكات حرب العصابات والمفاجآت في الشوارع والمباني وحتى في الأنفاق.

إعلان

جباليا: رمز الثورة الفلسطينية

لم يكن مخيم جباليا أكبر تجمع بشري للاجئين الفلسطينيين فحسب، بل صار منذ اندلاع الانتفاضة الأولى شرارة الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال، الانتفاضة التي انطلقت من أزقة المخيم يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول 1987 بعد حادثة المقطورة الشهيرة، امتدت لسبع سنوات متتالية، وتوسعت لتصل كل مخيمات وقرى ومدن قطاع غزة والضفة الغربية، وأصبح المخيم وشبابه مصدر إلهام للثورة الشعبية التي عمت الأراضي المحتلة.

من بين رموز المخيم الذين خطّوا أسماءهم في ذاكرة المقاومة في تلك المرحلة يبرز اسم عماد عقل، قائد كتائب القسام وأحد أبرز المقاومين الذين قضوا حياتهم في التصدي للاحتلال.. ابتدأ عماد مشواره النضالي برمي الحجارة والمولوتوف، ثم حمل البندقية فأصبح المطارد الأول، والكابوس الأول للاحتلال، الذي جعل رابين يتمنى لو أن البحر يبتلع غزة!.

وكذلك يبرز في المخيم اسم القائد الشهيد زكريا الشوربجي، أحد أبرز قادة القسام، الذي استشهد في معركة بطولية مع 500 جندي من قوات الجيش في حي التفاح، كما خرج من المخيم منفذ أول عملية استشهادية في قطاع غزة.. الشهيد أنور عزيز، وعلى أطراف المخيم اغتيل يحيى عياش الذي أوى إليه من الضفة الغربية.

خرّج المخيم على مدار أعوام الانتفاضة الأولى عشرات الكوادر، الذين أبرزوا دوره المحوري في تشكيل وقيادة المقاومة المسلحة. وخلال انتفاضة الأقصى، عزز المخيم مكانته الثورية بفضل مجموعة من القادة المركزيين الذين نشطوا فيه، مثل صلاح شحادة، القائد العام لكتائب القسام، ونزار ريان، وأحمد الغندور، وفوزي أبو قرع، وحسن المدهون، ومقلد حميد، وإسماعيل أبو القمصان، وغيرهم.. كان المخيم حاضنة للثورة، وخزانًا بشريًا لا ينضب، تتفجر منه المسيرات الشعبية العارمة في كل حدث وطني أو خارجي.

في مطلع عام 2003 فجرت كتائب القسام دبابة إسرائيلية في تلة العطاطرة شمال غزة، وقتل حينها 4 جنود صهاينة. اتهمت إسرائيل يومها أحمد الغندور "قائد القسام في لواء الشمال" بالمسؤولية عنها، وذكرت تقارير عبرية لاحقًا أن هذه العملية ألغت فكرة نقل عملية السور الواقي إلى قطاع غزة، لاختلاف القدرات العسكرية هناك.

إعلان

ومنذ الانتفاضة الأولى وحتى طوفان الأقصى، تميز مخيم جباليا بأنه أكثر منطقة خرّجت الاستشهاديين على مستوى فلسطين، كان من أهمها عملية ميناء أسدود التي نفذها اثنان من أبناء المخيم: محمود سالم، ونبيل مسعود. وكان فوزي أبو القرع يعتبر رجل العمليات الأول في القسام، وشكل حالة فريدة مع رفيقه حسن المدهون، إذ شكلا نموذجًا لم يتكرر في العمل المشترك بين كتائب القسام وكتائب الأقصى في الفترة بين 2002-2005 (حتى استشهادهما).

أيام الغضب وشعار "لن يدخلوا معسكرنا"

في عام 2004، شهد المخيم واحدة من أبرز معاركه، حين قاد الشيخ نزار ريان معركة  "أيام الغضب"، التي قابلت العملية الإسرائيلية "أيام الندم" تحت شعار التحدي الأول: "لن يدخلوا معسكرنا".. صمدت المقاومة يومها لمدة 17 يومًا متواصلة، استشهد فيها قرابة 150 فلسطينيًا، وشهدت تلك المعركة أول ظهور لقاذف الياسين محلي الصنع، وانكسر الجيش بعد فشله في تحقيق أهدافه، والتي كان أهمها منع إطلاق صواريخ القسام.

استمر الشيخ نزار ريان في قيادة الحالة الشعبية في مخيم جباليا، وأعلن عام 2008 رفض سياسة الاحتلال في قصف المنازل، وسعى لتحديها بطرق استثنائية، حيث خرج مع أهالي المخيم بأجسادهم العارية أمام الطائرات الإسرائيلية، ما بثّ شجاعة استثنائية في نفوس الناس، حتى بات الأطفال لا يهابون الصواريخ، والناس لا تهاب الطائرات الإسرائيلية!. هذا الدور المحوري للشيخ نزار وأهل جباليا ساهم في تعزيز مكانة المخيم كرمز لا يُقهر، حيث تحولت المعارك فيه إلى أمثلة يحتذى بها في الإرادة الشعبية والمقاومة.

معركة طوفان الأقصى: صمود جباليا الملحمي

مع بدء معركة طوفان الأقصى، قال الجيش الإسرائيلي -عبر الناطق باسمه دانيال هاغاري- إن مخيم جباليا انطلقت منه أشرس الهجمات في منطقة شمال غزة، والتي شملت مواقع: زيكيم، إيرز، سديروت، مفلاسيم، معتبرا المخيم "عش الدبابير".

ومع بدء الهجوم البري على قطاع غزة  في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 شن الجيش الإسرائيلي هجومًا بثلاث فرق عسكرية (الفرقة 162، والفرقة 252، الفرقة 143)، وطوقت مخيم جباليا من أكثر من جهة، وهو حجم القوة ذاتها التي استخدمها الجيش في حرب 1967، واحتل بها غزة والضفة والجولان وسيناء!.

وقف الجيش الإسرائيلي مذهولًا من قدرة هؤلاء السكان على الصمود الاستثنائي، الذي لم تشهده أي منطقة أخرى في قطاع غزة، إلا أن الجيش نفذ في هذه الحملة أكبر مجازر شهدتها الحرب، كان أبرزهما مجزرتي جباليا الأولى والثانية

استمرت معركة جباليا أكثر من شهرين، اعترف الجيش الإسرائيلي بعدها بعجزه عن اقتحام المنطقة، بسبب التواجد السكاني الكثيف، الذي بلغ حوالي 150 ألف نسمة رفضوا مغادرة المخيم، وحرموا الجيش من حرية المناورة العسكرية، وشكلوا سدًا منيعًا أمام قواته.

إعلان

وقف الجيش مذهولًا من قدرة هؤلاء السكان على الصمود الاستثنائي، الذي لم تشهده أي منطقة أخرى في قطاع غزة، إلا أن الجيش نفذ في هذه الحملة أكبر مجازر شهدتها الحرب، كان أبرزهما مجزرتي جباليا الأولى والثانية يومي 31 أكتوبر/ تشرين الأول، و1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، راح ضحيتهما أكثر من 600 شهيد. كما تمكن الجيش من اغتيال أبرز قادة كتائب القسام، الذين أعلنت الأخيرة عن استشهادهم بتاريخ 26/11/2023 وهم: "أحمد الغندور، رأفت سلمان، أيمن صيام، ووائل رجب".

معركة جباليا الثانية

في  11 مايو/ أيار 2024، بدأ الجيش الإسرائيلي معركة ثانية استهدفت مخيم جباليا، استمرت لـ 20 يومًا، إلا أنه جوبه بقتال شرس أعنف من المعركة الأولى، رغم مرور 7 أشهر على الحرب، وقال الجيش حينها إن قادة القسام الذين تم اغتيالهم في جباليا استُبدل بهم قادة أشرس وأكثر قدرة على القتال، كما قالت الفرقة 98 إنه في الأيام الخمسة الأولى من العملية كانت القذائف المضادة للدروع تنهمر مثل المطر على الآليات العسكرية، وإنه أُطلق على الآليات أكثر من 100 قذيفة مضادة للدروع، نتج عنها قتل 9 جنود.

وفي هذه العملية بث الجيش الإسرائيلي تصويرًا من طائرة استطلاع لقتال ملحمي وجهًا لوجه، بين ثلاثة مقاتلين من كتائب القسام وبين وحدة صهيونية على أحد أسطح منازل المخيم، تحول هؤلاء المقاتلون إلى أيقونة على مستوى الشارع العربي، وجسدوا مقولة "القتال من نقطة صفر، والقتال حتى آخر نفس".

برزت في هذه المعركة العمليات المركبة لكتائب القسام، وغيرت المقاومة من تكتيكات قتالها لاستدراج العدو إلى كمائن محكمة معدة سلفًا، والصبر على فريستها حتى الوقوع في المقتلة، ما اضطر الجيش للانسحاب من المخيم بعد 20 يومًا دون تحقيق أهدافه العسكرية، تاركًا دمارًا كبيرًا طال أكثر من 40% من مساحة المخيم.

معركة جباليا الثالثة

في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، واجه مخيم جباليا واحدة من أعنف المعارك في تاريخه، ورغم الحصار المطبق رفض سكان المخيم مغادرة منازلهم!. فحسب التقديرات الحكومية في غزة، بقي في المخيم ومحيطه حوالي 40-50 ألف شخص حاليًا، بعد 70 يومًا من الحصار الكامل، وتفجير عشرات الروبوتات المفخخة بين البيوت، حيث تظهر فيديوهات الجيش الإسرائيلي تدمير كل حواضر المخيم، وتحويله إلى مخيم أشباح، إلا أن جزءًا كبيرًا من أهله ما زالوا صامدين في أزقته، ومشروع بيت لاهيا ومدينة بيت لاهيا، فأصبح الصمود هو السمة الأبرز لشمالي قطاع غزة، في ظاهرة تعجز البشرية عن استنساخها، لصمود إنساني دون أدنى مقومات للحياة أمام قصف عشوائي يطول كل شيء.

إعلان

الدكتور حسام أبو صفية عنوانًا للصمود

لم تكن المقاومة يومًا بالسلاح فقط، بل تجلت كذلك في مواقف إنسانية ملهمة، مثل موقف الدكتور حسام أبو صفية الذي رفض إخلاء مجمع كمال عدوان الطبي رغم الاستهداف المستمر، ورغم قتل العدو المتعمد لنجله في باحة المستشفى؛ فتحول إلى رمز للإنسانية في وجه العدوان، مؤكدًا أن الصمود لا يقتصر على المواجهة المسلحة، بل يشمل التمسك بالحياة رغم الألم والموت المحيق، وما زال الدكتور حسام ورفاقه يواصلون تقديم خدماتهم رغم شح الإمكانات، متحدين كل آلة الموت والدمار الصهيونية.

خسائر الاحتلال واعترافه بالعجز

خلال الأيام الماضية، اعترف الجيش الإسرائيلي بتكبد خسائر باهظة في حملته العسكرية الحالية على جباليا، حيث أعلن عن مقتل 35 ضابطًا وجنديًا منذ بداية الحملة، وهو رقم يضاهي عدد الجنود القتلى في المعركة البرية في لبنان على يد حزب الله، بعد تعرض جباليا لعمليتين عسكريتين سابقتين، وسنة كاملة من الصمود والقتال المستمر.

تمثل جباليا اليوم ستالينغراد فلسطين، بل ربما أعظم، تلك البقعة الصغيرة التي قد تغيّر مسار الحرب، وتكسر جموح العملية العسكرية الإسرائيلية بعد استنفاد أقصى قدراتها، وترسل رسالة لقيادة هذا العدو بأن الخيار العسكري لا يمكن أن يحقق له مراده

آخر قتلى العدو في جباليا كان ثلاثة جنود قُتلوا في تفجير شاحنة مفخخة، بالإضافة إلى إصابة 18 آخرين، يوم الاثنين 9/12/2024، فيما استمرت عمليات المقاومة حتى مساء الخميس بإعلانها استهداف آليتين عسكريتين في منطقة الفالوجا غرب المخيم، وقنص جنديين في بلوك 2 جنوب المخيم، فيما تكبد الجيش خسائر نوعية خلال هذه العملية تمثلت بمقتل العقيد إحسان دقسة، قائد اللواء 401 مدرع (أرفع رتبة عسكرية تقتل خلال المعركة البرية)، إضافة إلى مقتل قائد الكتيبة 52 في عملية تفجير تبنتها كتائب القسام في حي الفالوجا غرب المخيم.

كما قتل 4 جنود من وحدة الأشباح متعددة الأبعاد في تفجير منزل مفخخ، قال الجيش إن مقاتلي حماس ضللوا قواته بتفخيخ الطابق الثاني من المنزل لإيهام الجنود أن المبنى آمن، وقد نجحت خطتهم بالفعل، فبعد يومين فقط أعلن العدو عن مقتل جنديين آخرين في تفجير منزل مفخخ يبعد 200 متر عن المنزل الأول، ليعلن الجيش مؤخرًا أن منزلًا من اثنين في المخيم هو مفخخ، ما يجعل عملية تقدم الجيش عسيرة.

إعلان

وأعلن الجيش أن رئيس الأركان هرتسي هاليفي كان قد غادر البيت المفخخ الذي قتل فيه جنود وحدة الأشباح قبل وقت قصير فقط، وأنه كان عرضة للقتل في هذه العملية لو بقي في المكان لوقت أطول.

هذا الفشل العسكري يكشف عن خلطة جباليا السحرية للصمود، وهي مزيج من التحام السكان مع مقاومتهم، فقد استطاع أهالي جباليا كسر أحد أهم عناوين هذه الحرب، وقد بُنيت عليه بقية أهدافها، وهو مخطط تهجير سكان شمال غزة. فقد صمدوا في أماكنهم رغم التجويع الممنهج، والقتل المدبر، والحصار الخانق، ليكسروا كل حلقات الاحتلال التي شهدتها الحرب في مراحلها المختلفة: (القتل العنيف، التدمير، التجويع، الفوضى).. مشهد يعيد إلى الأذهان معركة ستالينغراد التي أنهكت الجيش النازي وقلبت موازين الحرب.

 هل تكون جباليا نقطة التحول؟

اليوم، كما كانت ستالينغراد رمزًا لصمود الشعوب أمام الطغيان، وحطمت أحلام الرايخ أدولف هلتر بالسيطرة على أوروبا، فإن مخيم جباليا يكتب فصلًا جديدًا من الصمود الفلسطيني الذي لا يُقهر في ظل هذا الحصار، وفي وجه آلة الحرب الإسرائيلية، كما يثبت المخيم أن الإرادة الشعبية قادرة على الصمود، وأن الاحتلال -مهما حاول- لن يستطيع كسر روح المقاومة.

تمثل جباليا اليوم ستالينغراد فلسطين، بل ربما أعظم، تلك البقعة الصغيرة التي قد تغيّر مسار الحرب، وتكسر جموح العملية العسكرية الإسرائيلية بعد استنفاد أقصى قدراتها، وترسل رسالة لقيادة هذا العدو بأن الخيار العسكري لا يمكن أن يحقق له مراده، وتعيد التأكيد على أن النصر ليس لمن يملك القوة فقط، بل لمن يملك الإصرار والإيمان بحقه، وأنه "وما النصر إلا صبر ساعة".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان