هل يمكن لكل من يكتب عن حلب أن يهرب من إغراء اقتباس بعض مما كتبه المتنبي عن تلك المدينة، التي ارتبطت بحياته وشعره مع أنه ليس ممن ولدوا فيها، وأن إقامته فيها لم تزد عن عشر من السنوات، لكنها حاضرة في أشعاره، ماثلة في كتابات كل من كان المتنبي محلًا لنقده وتحليله؟
سوق حلب القديم، والذي هو ربما من أكبر الأسواق المسقوفة في العالم، عالم غريب من السحر والجمال المعجون بالتاريخ
وها نحن بدورنا نقع تحت تأثير ذلك الإغراء، فنستعير من المتنبي بيته الشهير: "كلما رحبت بنا الروض قلنا.. حلب قصدنا وأنتِ السبيل". ليكون هذا البيت من شعر أبي الطيب ليس فقط عنوانًا لهذه الكلمات عن مدينة حلب، بل وحاضرًا على لساننا كلما حملتنا طائرة أو حافلة أو عربة قطار، قاصدين عاصمة الشمال السوري، وما كان أكثرها من رِحلات! وما أكثر ما ذكر المتنبي في تلك المقاصد!
حين تقترب من حلب من أي الجهات أتيت، تطالعك قلعتها متربعة على تلك الربوة المشرفة، مرتفع من الأرض عمره بعمر التاريخ حقيقة لا مجازًا، الحفريات على ذلك التل تخبرنا أن ثمة شواهد تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، ويقال إن النبي إبراهيم – عليه السلام – كان يحلب غنمته على تلك التلة، ومنها جاء اسم المدينة.
مر على تلك التلة – وعلى حلب بطبيعة الحال – الآشوريون والبابليون والسلوقيون والبيزنطيون والزنكيون والأيوبيون والمغول والمماليك والعثمانيون، وصولًا إلى القرن العشرين وما شهده من تغيرات، وإن كانت القلعة ببنائها الحالي تعود إلى الفترة الأيوبية، مع تحديثات وتجديدات في السنوات الخمسين الأخيرة.
أما سوق حلب القديم، والذي هو ربما من أكبر الأسواق المسقوفة في العالم، فعالم غريب من السحر والجمال المعجون بالتاريخ، ويمتد ذلك السوق، والذي يطلق عليه الحلبيون "سوق المدينة" (بتسكين الميم)، من طرف القلعة شرقًا حتى باب أنطاكية غربًا.
في آخر زيارات حلب تصادف وجودنا هناك مع الإعلان عن اكتشاف البيت الذي سكنه المتنبي أثناء إقامته في حلب لعشرة أعوام، قريبًا من سيف الدولة وملازمًا له
ويشكل مع تفرعاته ليس فقط مركزًا اقتصاديًا يضم كل ما يخطر على البال من سلع وبضائع، وإنما هو ميدان للتبادل السلعي وعقد الصفقات التجارية ونقل الخبرات للأجيال الجديدة، وهو مركز تسوق ليس لأهالي حلب وحدها، بل لمنطقة الجزيرة السورية والجنوب التركي شمالًا، ولمنطقة سواحل بلاد الشام وصولًا إلى بيروت جنوبًا .
ولا تكتمل زيارة حلب دون أن نعرج على واحد من المطاعم الشهيرة، التي تختص بالطبخ الحلبي الذي لا يضاهى، والذي لن تجد له مثيلًا رغم ما عرفناه من طعام شهي في بلدان عديدة.
فالنوع الواحد من الطعام له طرق متنوعة في إعداده وفي تقديمه، فالأكلة المعروفة في سوريا ولبنان "الكبة" لها في حلب أنواع عديدة كاللبنية والسفرجلية والسماقية والمشوية والصاجية وغيرها، والكباب بدوره له أنواع عديدة مثل "كباب باذنجان" و"كباب سماق" وعشرات الأنواع الأخرى، وكذلك المشاوي التي تشمل أنواع اللحوم والخضار.
أما طريقة تقديم الأطباق في المطاعم الحلبية فقصة وحكاية، تجعلك مجبرًا على أن تكثر من كمية الوجبة بتأثير تعدد الأشكال والمذاق والألوان، ولن تجد طريقة لتهرب من إغراء أطباق الحلويات بعد تلك الوجبة الثقيلة، فتجد أطباق الحلويات بالفستق الحلبي والميمونية والشعيبيات وحلاوة الجبن بالأرز وسواها تشدك بشكلها، ورائحة ماء زهر الليمون الذي يضاف لأصناف منها، دافع إغراء لتذوق المزيد، ولو قليلًا من كل صنف من تلك الحلويات التي لن تجد مثيلًا لطعمها المميز خارج تلك المدينة .
في آخر زيارات حلب تصادف وجودنا هناك مع الإعلان عن اكتشاف البيت الذي سكنه المتنبي أثناء إقامته في حلب لعشرة أعوام، قريبًا من سيف الدولة وملازمًا له، فكان لا بدّ من زيارة ذلك البيت الذي أصابه التغيير والتجديد خلال ألف عام انقضت، منذ سكنه مالئ الدنيا وشاغل الناس.
جاءت الأحداث المؤسفة التي عرفتها سوريا في مطلع العقد الثاني من قرننا هذا، لتكون حلب ساحة من ساحات تلك الأحداث بحروبها ومآسيها، فتضررت قلعة حلب المهيبة المتربعة على ذلك المرتفع التاريخي
لكن ذلك لم يحل دون زيارة ذلك البيت الذي تقرر تحويله إلى متحف باسم المتنبي، لنقف على الأمكنة والزوايا والجدران التي ربما شهدت أبا الطيب وهو يزرع الفسحة السماوية للمنزل، وهو ينظم تلك القصائد التي سيدخل عليها سيف الدولة مادحًا ومهنئًا ومتغزلًا ومدافعًا عن نفسه وشعره تجاه الحسّاد، الذين لا يكلون ولا يملون بمساعيهم لإيغال صدر سيف الدولة عليه، بل ربما كان هذا البيت هو ذات المنزل الذي قصده الشاعر بقوله:
لك يا منازل في القلوب منازل أبلـيت أنت وهـن منـك أواهـل
ثم جاءت تلك الأحداث المؤسفة التي عرفتها سوريا في مطلع العقد الثاني من قرننا هذا، لتكون حلب ساحة من ساحات تلك الأحداث بحروبها ومآسيها، تضررت تلك القلعة المهيبة المتربعة على ذلك المرتفع التاريخي، تهدمت أجزاء من جامع حلب الكبير، أصاب الحريق تلك الأسواق المسقوفة، حتى بيت المتنبي لم يسلم من أضرار لحقت به.. لكن الشوق ما يزال يشدنا إلى هناك مرددين مع المتنبي:
قد سألنا ونحن أدرى بنجد أطويـل طريـقنا أم يطـول
وكثير من السـؤال اشتياق وكـثـيــر من رده تـعـلـيـل
نعم، إن سؤالنا عن حلب مغلف بالاشتياق، ولا نعرف ما إن كان طريقنا سيطول قبل أن نحط الرحال في الشهباء مرة أخرى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.