من عَلِم فقد فَقِه، ومن فَقِه فقد نجا وارتقى.. وبما أننا نعيش في عالم متسارع رقميًا ومتنامٍ عولميًا، أصبح الأفراد والمجتمعات مُطالبين بالاهتمام والتمكن من كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي والتعلم الرقمي.
تحولات في حياة البشر
تتطور أدوات الذكاء الاصطناعي بوتيرة مذهلة، حيث تشهد تغييرات جذرية كل بضع ثوانٍ، على عكس الآلات التي كانت تُصنع في بدايات الثورة الصناعية منذ القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين، حين بدأ المخترعون يصنعون الأجهزة الكهربائية، وانتشرت على إثرها أدوات كهربائية مهمة لحياة الإنسان، مثل المكواة والمكنسة الكهربائية، وفي منتصف القرن العشرين ظهرت الصناعات الإلكترونية مثل التلفزيون والثلاجة والغسالة، وكانت هذه الأجهزة في معظمها تخدم أصحاب صناعات ومهن معينة وربات البيوت.
إن الذكاء الاصطناعي والتعلم الرقمي وجهان لعملة واحدة؛ لأن التعلم الرقمي يتيح لنا الوصول إلى كم هائل من المعارف والمهارات في أي وقت ومن أي مكان، ما يوسع آفاقنا ويفتح لنا أبواب فرص جديدة
وفي الربع الأخير من القرن العشرين شهدنا ظهور الحاسوب الشخصي والإنترنت، ومنها دخلت البشرية جمعاء عصر المعلوماتية الرقمية والعولمة، وانتقلنا من الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية إلى الثورة الرقمية في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وقد أحدثت تغييرًا جذريًا في حياة البشر من حيث طريقة تفاعلهم مع المعلومات المتدفقة والتكنولوجيا المتسارعة في النمو.
التعلم الرقمي والذكاء الاصطناعي
هذه التحولات الرقمية ليست اتجاهات عابرة في حياة البشر، بل أصبحت ضرورة ملحة للاستخدام والتطبيق على أسس معرفية وسلوكية في جميع مناحي الحياة وتخصصاتها، وامتدت الضرورة لتشمل جميع عينات المجتمع لتضم كل الأعمار والتخصصات والمهن والاهتمامات.
وجد عديدون من مستخدمي الذكاء الاصطناعي فوائد اختصرت عليهم الوقت والجهد والمال وعناء البحث والسؤال، لقد أضاف الذكاء الاصطناعي مزايا عديدة إلى حياة البشر مثل تسهيل القيام بالعديد من المهام اليومية، وتحسين جودة الحياة، ودفع عجلة التنمية في مختلف المجالات.
فضلًا عن قدرته على توجيه الأفراد نحو تحسين كفاءة العمل، واتخاذ قرارات أفضل، وحل المشكلات المعقدة، ودعم الاقتصاد وتقدمه، ومعرفة كيفية مواجهة التحديات العالمية، مثل: تغير المناخ، والكوارث الطبيعية، والأمراض المستعصية.
وفي مجال الطب، يساعد الذكاء الاصطناعي في تشخيص الأمراض وتطوير العلاجات، وفي مجال الصناعة يزيد من الإنتاجية والكفاءة، وفي مجال الخدمات استطاع تقديم تجارب مخصصة للمستخدمين.
يمثل الذكاء الاصطناعي قوة دافعة لمستقبل مشرق وواعد إذا أحسنّا استخدامه، وإذا ما تمكنا من مهارات الاستخدام الصحيح الهادف، ليكون عندها شريكًا للإنسان في رحلته نحو المستقبل والإبداع وليس مجرد آلة أو تقنية
إن الذكاء الاصطناعي والتعلم الرقمي وجهان لعملة واحدة؛ لأن التعلم الرقمي يتيح لنا الوصول إلى كم هائل من المعارف والمهارات في أي وقت ومن أي مكان، ما يوسع آفاقنا ويفتح لنا أبواب فرص جديدة.
وأدوات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي توفر لنا الحلول والإجابات والأفكار المبدعة، وهي آخذة في النمو والتطور لتصبح أكثر تخصيصًا وجودة، داعمة لحياة البشر، وآخذة في الصعود المتسارع نحو آفاق جديدة من التقدم والازدهار. وإن دمج الذكاء الاصطناعي والتعلم الرقمي في حياتنا اليومية يمثل استثمارًا في مستقبلنا، ويضمن لنا القدرة على التكيف والتقدم والارتقاء في جميع المجالات في عالمٍ يتغير باستمرار.
يمثل الذكاء الاصطناعي قوة دافعة لمستقبل مشرق وواعد إذا أحسنّا استخدامه، وإذا ما تمكنا من مهارات الاستخدام الصحيح الهادف، ليكون عندها شريكًا للإنسان في رحلته نحو المستقبل والإبداع وليس مجرد آلة أو تقنية، بل ثورة تحوُّلية تغطي جوانب عديدة من حياتنا.. ها قد تحول خيال العلماء إلى حقيقية وواقع ملموس يغير الطريقة التي نفكر فيها ونعيش بها ونعمل بها.
إنَّ التعلم الرقمي ليس مجرد أداة للتعليم، بل هو وسيلة لبناء مواطن صالح يمتلك المعرفة والمهارات والقيم اللازمة للمشاركة الفعالة في بناء مجتمع أفضل. ولكي نعزز "روح المواطنة التوافقية" مع رؤى وتوجهات الدولة، ولمسايرة تقدمها المتسارع، ولنوفر عليها الوقت والمال والجهد، علينا أن نمارس "مهام المواطنة الرقمية" بمهارة فائقة ووفق آخر التحديثات.
مطالب التعلم الرقمي واستخدام الذكاء الاصطناعي
إن الاستثمار في التعلم الرقمي ليس مجرد استثمار في الأفراد، بل هو استثمار وتمكين في مستقبل مجتمعاتنا ككل؛ فمن خلال تمكين الأفراد من المهارات التكنولوجية والمعرفية اللازمة نقوي لديهم الدافع للمشاركة الفعالة في الحياة العامة والمجتمع المحلي والعالمي.
مشاركة رقمية مدنية صالحة، لكي يتعرفوا على الحقوق والواجبات، ويتدربوا على ممارستها رقميًا، ولينخرطوا في مهام المسؤولية المجتمعية سلوكيًا وإيجابيًا وبشكلها الصحيح، وهذا لا يتأتى إلا برفع الوعي بالقضايا المجتمعية لدى جميع المواطنين، وتشجيعهم على الالتزام بالقوانين واحترام حقوق الآخرين، ليشاركوا في عمليات صنع القرار بإيجابية وشفافية وأمانة وفاعلية.
إن تحول الدول والمؤسسات نحو العالم الرقمي، وإيجاد حكومة بلا أوراق، جعل المواطنين مُطالبين بإتقان التعلم الرقمي و"محو الأمية الرقمية"، والاتجاه نحو تعزيز الكفاءات والمعارف والمهارات الرقمية، ليشاركوا في الرأي، ويتبادلوا الأفكار، ويتكون لديهم الوعي الكافي بقضاياهم المجتمعية والمحلية والعالمية، وكلما ازدادت خبرتهم في التعامل مع الذكاء الاصطناعي وممارسته بإتقان ومهارة، توسعت آفاقهم، وعَلَت إبداعاتهم، وكلَّما تمكنوا من التعرُّف على التحديات وكيفية مواجهتها، اكتسبوا مهارات أوسع في حل المشكلات.
لعل أكثر ما يُؤرق مستخدمي الإنترنت وتطبيقات وبرامج الذكاء الاصطناعي انتشار الجرائم الإلكترونية، وشيوع انتهاك خصوصية الآخرين الرقمية، والتنر والهتكرز، فضلًا عن نشر المعلومات المضللة والكاذبة، ما يحتم عليهم معرفة كيفية تفنيدها وكشفها
من القواعد والسلوكيات، التي يجب على الأفراد الالتزام بها عند استخدام التكنولوجيا والإنترنت وأدوات الذكاء الاصطناعي، الالتزام بقواعد احترام الحقوق الرقمية للآخرين، ومعرفة كيفية حماية الخصوصية الرقمية لنفسه وألا يتعدى على غيره.
إذن، هناك وعي والتزام أخلاقي ومسؤولية مجتمعية على الفرد تحمُّلها، وأثناء استخدام الفرد للذكاء الاصطناعي عليه أن يفطن دائمًا إلى كيفية عمل الأنظمة الذكية، وفهم الأساسيات التي تعمل عليها هذه الأنظمة، وكيف تتعلم وكيف تتخذ قرارات، لكي يعرف المواطن الرقمي كيف يستخدم هذه الأنظمة بشكل فعَّال مع تجنب الأخطاء قدر الإمكان، ومنها يتعلم مهارات التفكير الناقد وحل المشكلات والتواصل الفعَّال.
إنَّ المواطن الرقمي الماهر يعمد دائمًا إلى تقييم المعلومات، والتفريق بين الصحيح منها والخاطئ، والموثوق وغير الموثوق، بالإضافة إلى تقييم القرارات التي تتخذها الأنظمة التكنولوجية، وآثارها الاجتماعية والقانونية والأخلاقية، ليلغي ما يتعارض معها ويأخذ بما يوافقها.
المفارقات
في الحقيقة، عندما يستخدم شخص ما إحدى أدوات الذكاء الاصطناعي، ولنفترض أنه من أصحاب الذكاء المتوسط، وبدأ باستخدامها لإنجاز مهمة ما، فإن هذا الشخص يكون قد قفز بمستوى ذكائه لمستويات التفكير العليا، ويبدأ يتأثر ويتعلم من طريقة تفكير الذكاء الاصطناعي ويتطبع بها.
وعند زيادة الاستخدام والممارسات البحثية والتفكير وطرح الأسئلة، سيصعد مستوى ذكائه لمستويات أعلى من التي يستخدمها الذكاء الاصطناعي، وهكذا يبقى الإنسان هو المتفوق على الذكاء الاصطناعي وصاحب اليد العليا ما دام يمارس ويفكر ويجتهد أثناء التعامل مع الذكاء الاصطناعي، ولديه تركيز عالٍ نحو تحقيق الهدف الأساسي الذي دفعه لاستخدام الذكاء الاصطناعي في المقام الأول، ولم يتُه في ترهات ومسارات البحث أثناء تدفق المعلومات الكثيفة والمتشعبة والعميقة عليه، ولم ينبهر ولم ينسَ السؤال الأول للمشكلة التي كان بصددها، ولم يخرج في نهاية البحث والمحادثة مع الذكاء الاصطناعي -كما يحدث لكثيرين- بخُفَيِّ حُنين.
لعل أكثر ما يُؤرق مستخدمي الإنترنت وتطبيقات وبرامج الذكاء الاصطناعي انتشار الجرائم الإلكترونية، وشيوع انتهاك خصوصية الآخرين الرقمية، والتنر والهتكرز، فضلًا عن نشر المعلومات المضللة والكاذبة، ما يحتم عليهم معرفة كيفية تفنيدها وكشفها أيضًا باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.
ومن المفارقات، نجد أن الإنسان البشر هو الذي اخترع وصنَّع أدوات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تقوم بكل الجرائم السابق ذكرها، ولنطلق عليه اسم "الذكاء الاصطناعي الشرير"، وهناك إنسان بشر آخر صنَّع واخترع أدوات وتطبيقات ذكاء اصطناعي تقاوم وتحارب هذه الجرائم، بل وتوفر الكشف المبكر عن مثل هذه الجرائم، ويعلمنا كيفية التعامل مع الأخبار الزائفة وحماية البيانات الشخصية الرقمية، ودعونا نطلق عليه "الذكاء الاصطناعي الخيِّر"، فلنوسع أفق تفكيرنا، ودعونا لنرى أن الأمر في النهاية منوط بالإنسان البشر.
نحن حقيقةً نتعامل مع البشر، أما التنقنيات والآلات فما هي إلا أدوات يستخدمها البشر إما للخير والإعمار أو الشر والدمار.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.