شعار قسم مدونات

قصة نزوح قسريّ

صور من رحلة ومكان نزوح شكري فلفل من حي النصر في غزة إلى خيام رفح قبيل مغادرته قطاع غزة
الكاتب: الاحتلال هندس لنزوحنا من شمال القطاع قسرًا نحو الجنوب إنها رحلة تهجير عصرية أو نكبة فلسطينية جديدة (الجزيرة)

في الثانية فجرًا ازدادت وتيرة النيران، وأخذت الانفجارات تحيط بنا من كل جانب.. فزع أطفالي من النوم، وفزعنا من قوة الانفجارات المتتالية، والتي تسببت في انهيار النوافذ علينا ونحن نيام. هدَّأتُ من روع أسرتي، ولا سيما أطفالي إلى أن سمعنا أصوات الآليات والمدرعات تقترب منا رويدًا رويدًا، كان القرار بضرورة ترك المكان على الفور، تاركين خلفنا كل شيء، لتبدأ رحلة نزوح جديدة.

لليالٍ عدة كانت قذائف المدفعية تقترب منا أكثر فأكثر، إضافة إلى البراميل المتفجرة التي تتساقط على المنازل المجاورة، إلى أن جاء دورنا لنصبح هدفًا جديدًا لقذائف الاحتلال، فقد استيقظنا فجرًا على القذائف وهي تنهال فوق رؤوسنا لنخلي المكان قسرًا

توجّهنا نحو مشروع بيت لاهيا بجوار مخيم جباليا، حيث الكثافة السكانية للنازحين والقرب من مشفى كمال عدوان، فقد نزح معظم سكان جباليا وضواحيها إلى هذه البقعة الجغرافية التي لا تزيد مساحتها عن نصف كيلومتر مربع.

سرنا فجرًا نحو مكان نزوحنا الجديد في ظلام حالك، فلا إضاءة أو كهرباء، بل عتمة تحيط بنا من كل جانب، فكثافة الدخان الناجم عن كثافة النيران قد غطت السماء من فوقنا، حتى حجبت عنا ضوء القمر، وأذهبت لمعان النجوم.

كاستراحة نازح، مكثنا برهة من الوقت في أحد مراكز الإيواء حتى تهدأ وتيرة القصف قليلًا، وبمجرد أن هدأت لدقائق انطلقنا إلى مكان نزوح آخر في إحدى المدارس التي كانت مليئة بالنازحين والمكلومين، حيث طرقات وأزقة الصفوف الدراسية ممتلئة بالنازحين.

إعلان

انطلقنا نحو الوجهة التي كنا نعتقد بأنها الملاذ الأخير الآمن لنا كنازحين، منطقة مشروع بيت لاهيا، أوينا إلى أحد المنازل ومكثنا فيه أيامًا عدة، لكن وجودنا في هذا المكان لم يكن أفضل حالًا من سواه؛ فمنذ اجتياح الجيش الإسرائيلي شمال غزة مع بداية شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2024 لم يهدأ أزيز الطائرات، ولم ينطفئ لهب النيران المنبعثة من المنازل المحيطة، ومراكز الإيواء المجاورة.

لليالٍ عدة كانت قذائف المدفعية تقترب منا أكثر فأكثر، إضافة إلى البراميل المتفجرة التي تتساقط على المنازل المجاورة، إلى أن جاء دورنا لنصبح هدفًا جديدًا لقذائف الاحتلال.

فقد استيقظنا فجرًا على القذائف وهي تنهال فوق رؤوسنا لنخلي المكان قسرًا، وتحت هذا التهديد الدموي، هُرعنا مسرعين من تحت ركام المنزل وحجارته التي تساقطت فوقنا، كانت الأشلاء والدماء على باب المنزل، وإحدى الأمهات تصرخ: "إسعاف يا عالم.. ابني تقطّع أشلاء!!"، فلا إسعافاتٍ أو مسعفين، فقد استهدفت الطائرات سيارات الإسعاف والمسعفين في المنطقة، فكان قرار هذه الأم المكلومة أن تجمع أشلاء ابنها المتناثرة في غطاء سرير كانت تضع فيه ملابسها وملابس أطفالها.

وبُعيد دقائق جاء رجل آخر مكلوم يجري مسرعًا وهو يصرخ والدموع تنهمر من عينيه: "وين الإسعاف يا ناس؟ الطيارة قصفت أولادي!! أولادي الأربعة استشهدوا، ما ضل إلي أولاد، كل أولادي راحوا".

في طريقنا وأثناء سيرنا لا معالم على الطريق، فعن اليمين وعن الشمال عمارات وبيوت ومحال تحولت إلى أكوام من الحجارة؛ حجارة تناثرت على الطرقات، لا سيما الطرقات التي نسير فيها، حيث تكبَّدتُ معاناة كبيرة في دفع أمي على كرسيها المتحرك

بعد تلك المشاهد والمواقف تيقنت أننا قد وصلنا إلى نقطة الصفر، وأن استمرارنا في الجلوس يعني أننا سنكون في عداد الأموات، فإصراري في كل مرة على البقاء وعدم الإسراع للنزوح هو بمثابة تحدٍّ كبير يواجهني، فقرار النزوح ليس قرارًا سهلًا؛ حيث أعيل والدتي المقعدة المسنَّة إلى جانب أطفالي الصغار، فالنزوح بهم والانتقال إلى مكان آخر ليس بالأمر الهيّن.

انطلقنا من البيت في رحلة نزوح قسرية جديدة، ووضعتُ أمي على كرسيها المتحرك أدفعها نحو الطريق الذي حدده الجيش الإسرائيلي للخروج من الشمال جنوبًا، وكان خلفي أطفالي الصغار تجرهم أمهم الحامل، حيث المعاناة المضاعفة التي تتكبدها المرأة الفلسطينية.

إعلان

في طريقنا وأثناء سيرنا لا معالم على الطريق، فعن اليمين وعن الشمال عمارات وبيوت ومحال تحولت إلى أكوام من الحجارة؛ حجارة تناثرت على الطرقات، لا سيما الطرقات التي نسير فيها، حيث تكبَّدتُ معاناة كبيرة في دفع أمي على كرسيها المتحرك، فالشوارع وعرة والطرقات مجرّفة.. ماذا أفعل؟ كيف سأمر بأمي من هذا الطريق؟ وكيف سأجتاز هذا المأزق؟!

لا أحد يستطيع المساعدة أو المساندة، فجميع النازحين همهم كبير؛ هذا يحمل طفله، وهذه تجر عربة فيها بعض من الطعام والملابس، وذاك يحمل على ذراعيه ابنه الجريح.

ركنت أمي جانبًا، وأخذت أدفع بقدمَيَّ ويدَيَّ الحجارة والصخور وبعضًا من الأثاث المدمر المتناثر في الشارع، أفسحتُ بعضًا من الطريق كي تسير فيه عجلات الكرسي المتحرك، تخلصت من هذه العقبة ظنًّا أنني التقطتُ أنفاسي أخيرًا، إلى أن اعترضتني عقبة أخرى، فالطريق الالتفافي الذي يتمركز فيه الجيش بآلياته ودباباته وَعِرٌ للغاية، وهو أشبه بحفرة ممتلئة بالكثبان الرملية والحجارة.. توقفت قليلًا أفكر في كيفية الخروج من هذا المأزق!

بعد ساعات من الانتظار وصل دورنا للمرور أمام حاجز التحقيق الذي تجاوزناه بمعية الله ورعايته وحفظه، استكملت رحلتي الكبيرة في النزوح، وهمي الأكبر في دفع أمي في شوارع وعرة جرفتها الآليات

أثناء وقوفي فاجأني قائد الدبابة بتحريك دبابته تجاهنا في إشارة منه بضرورة الإسراع والتحرك وعدم الوقوف؛ حينها رأيت الله أمامي، رفعت عينيَّ إلى السماء وصرخت بأعلى صوتي (يااااا رب).. (يااااااا الله).. شعرت بأن صرخاتي قد اخترقت صوت الطائرات من فوقي والمدرعات من أمامي، لتخترق حاجز السماء، ويلبِّي ربي صرختي أن لبيك يا عبدي.

أحاطتني حينها قوة هائلة، مكنّتني من دفع أمي بقوة أستطيع من خلالها أن أخرج من هذا المأزق، والحمد لله.. وجَّهنا الضابط الإسرائيلي نحو مركز التحقيق حيث المستشفى الإندونيسي، فهو يقيم هناك الحاجز العسكري لفرز النازحين واعتقال بعضهم، سمح الجيش للنساء بالمرور، وأمر الرجال من عمر 14 عامًا فما فوق بالدخول إلى إحدى المدارس المجاورة، والتي خصصها كمركز تحقيق.

إعلان

أثناء المرور خاطبت قائد الدبابة للسماح بالمرور بأمي المقعدة، رفض وطالبني بالدخول إلى مركز التحقيق، كررت مطالبتي، موضحًا له أن لا أحد لأمي سواي، ولا يوجد من يرعاها ويدفعها غيري، امتشق سلاحه والغضب يملأ عينيه صارخًا في وجهي: هترجع ولا أطخك؟!

حينها طالبتني أمي والدموع تنهمر من عينيها بالاستجابة، وضرورة العودة والدخول إلى مركز النزوح.. فعلت، كانت أمي المرأة الوحيدة بين أكثر من ألفي رجل ينتظرون الدخول للتحقيق.

بعد ساعات من الانتظار وصل دورنا للمرور أمام حاجز التحقيق الذي تجاوزناه بمعية الله ورعايته وحفظه، استكملت رحلتي الكبيرة في النزوح، وهمي الأكبر في دفع أمي في شوارع وعرة جرفتها الآليات، ومحت معالمها المجنزرات والمدرعات، وكأنك تسير في صحراء، لكنها ليست صحراء قاحلة فقط، بل مليئة بالحجارة والركام والحطام.

عند الحاجز العسكري فقدنا طفلتنا الصغيرة ذات السنوات السبع، لم نجد لها أثرًا، فقد تعثرت بين آلاف النازحين السائرين في شارع ضيّق، صرخت زوجتي في وسط دائرة كبرى مغلقة بالدبابات والآليات: "بنتي.. بنتي..".. تردد والدموع تنهمر من عينيها: "وين بنتي راحت؟! وينك يا ماما؟".. لم نعرف لها طريقًا، فالطريق مزدحم بالنازحين، ومكتظ بالكبار والصغار: أطفال ونساء ومسنين ورجال، لقد استعوضنا الله فيها، ودعوناه اللقيا بها..

قدم الفلسطينيون في غزة دماءهم وأرواحهم وممتلكاتهم وأموالهم لإفشال مخططات التهجير، التي تهدف لاقتلاع الفلسطيني من أرضه

لقد سرنا على أقدامنا مسافة سبعة كيلومترات في رحلة عذاب لا أقول رحلة نزوح فقط، إنها رحلة هي الأصعب في مرات النزوح المتكرر والتي خضناها على مدار أربعة عشر شهرًا، فقد نزحنا خلال فترة تواجدنا في شمالي قطاع غزة أكثر من خمس عشرة مرة، وفي كل مرة تجرعنا مرارة الألم والفقد والحرمان والبرد، إلا أن دفء الوطن كان يؤنسنا.

إن ما سبق برهان قاطع على أن الاحتلال قد هندس لنزوحنا من شمال القطاع قسرًا نحو الجنوب، إنها رحلة تهجير عصرية أو نكبة فلسطينية جديدة، كما كان يحدثنا بذلك جنود الاحتلال عبر مكبرات الصوت أثناء نزوحنا وترحالنا من مكان لآخر.

إعلان

لقد قدم الفلسطينيون في غزة دماءهم وأرواحهم وعائلاتهم وممتلكاتهم وأموالهم لإفشال مخططات التهجير، التي تهدف لاقتلاع الفلسطيني من أرضه، إلا أن الفلسطيني قد برهن للعالم أنه متجذِّر في أرضه ووطنه حتى لو كان على حساب روحه وراحته.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان