لطالما سمعنا بالهُوية الوطنية، ولطالما كثرت التعاريف والشروحات التي تطول عنها، وسمعنا وشاهدنا من يدافع عنها بشراسة، ومن لا يعيرها أهمية مقابل الزخم الهائل من المتغيرات السياسية والاجتماعية التي يتفاعل معها، والتي تكاد لا تفارق المشهد الاعتيادي في العراق.
تلك الصور النمطية والمشاهد اليومية، وكل تلك التغيرات والتفاعلات، تجعل العراقيين يذهبون بعيدًا كلّ البُعد ويرون أن تلك الأشياء غير منطقية، نظرًا لما يمرون به من تحديات كبرى.
من هذه الأشياء مفهوم الهوية الوطنية العراقية، ولو عادوا بالزمان قليلًا لوجدوا أن الغالبية العظمى من مشاكلهم تتمحور حول هذه العبارة، وهذه الكلمات الثلاث فقط: (الهوية الوطنية العراقية)، تلك الهوية التي انسلخت فعلًا من طبيعتها المادية والمعنوية معًا، وتمخّضت عن تلك الهويات الفرعية والتكتلات البشرية التي تخلّت عن هُويتها مقابل الإحساس بالحماية التي لم تنتجها السلطة في العراق على مختلف الأنظمة السياسية.
ماذا نقصد بالهوية الوطنية العراقية؟ هل هويتنا تعتمد على وجود سلطة سياسية بالأساس، تحاول تجميع الأفراد تحت مظلة واحدة، وهي الهوية الجامعة لكل الألوان والأطياف؟
تيارات الهوية؟
هناك تياران أو رأيان تنطلق منهما رؤية الهوية العراقية ووجودها وأسبقيتها، مع التأكيد على الاستمرارية أو النفي في العراق. التيار الأول يرى أن الهوية العراقية كانت موجودة بالفعل قبل تأسيس الدولة العراقية عام 1921، ولكنها عانت من البُعد المكاني أو المفهومي بإطار مساعي الدولة في توضيح معالم هذه الهُوية.
أما التيار الثاني، فيذهب إلى أن الهوية الوطنية العراقية ظهرت ملامحها واقعًا بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، والتي تبلورت في مساعي وجهود الملك فيصل الأول، عندما أراد صنع مفهوم خاص للهوية العراقية يتشارك فيه العراقيون، ليشكل هويتهم الواحدة بعيدًا عن كل تلك النمطيات والسرديات المختلفة التي تميز العراقيين فيما بينهم، من خلال إشباع مفهوم الأمة أولًا.
ومع أنني أميل دائمًا إلى الرأي الثاني الذي يستند إلى حجج منطقية ومدركات واقعية، تجعلنا لا نخرج عن سياق القوانين والروابط الدولية، فالعراق لم يكن دولة حديثة وفق مفهوم الدولة الحديثة اليوم قبل عام 1920، وبالفعل بسبب ما عاناه من دوامة الاحتلالات الأجنبية؛ فالإمبراطورية العثمانية فقط دام حكمها 4 قرون، ومن بعدها الاحتلال الإنجليزي وغيره.
لكن لو نظرنا إلى مفهوم الدولة الحديثة، نجد أنها تتمتع بكيان سياسي وحدود جغرافية، وسيادة وقانون وجيش وقضاء وتعليم وغير ذلك، مع الاختلاف الكبير للتعريف، وهذه العناصر كانت غير متكاملة، أو بالأحرى مشتتة وغير واضحة المعالم، قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، ولعدة معطيات أهمها التغيير الحاصل في النظام الدولي، والصيغ الجديدة لمفاهيم الدولة وآليات عمل المؤسسات.
بالتالي، ماذا نستنتج؟ هل تلك الهوية التي ظهرت معالمها بعد تأسيس الدولة العراقية عانت من الضياع والركاكة في البناء والضعف في المفهوم، وهذا ما نستنتجه بالفعل منطقيًّا لدولة عانت كثيرًا من الحروب والصراعات الداخلية والخارجية؟ لكن السؤال الكامن في طياته: ماذا نقصد بالهوية الوطنية العراقية؟
هل هويتنا تعتمد على وجود سلطة سياسية بالأساس، تحاول تجميع الأفراد تحت مظلة واحدة، وهي الهوية الجامعة لكل الألوان والأطياف؟ هل تعتمد بالأساس على اللغة والدين والقومية؟
فما بين وجود سلطة سياسية تحاول تدعيم هذه الهوية تحت مظلة واحدة، كما ذكرنا آنفًا، وأن تكون الأيديولوجية العامة هي العراق بغض النظر عن كل المنطلقات الأخرى، ومهما تعددت عقد الأدلجة والفسلجة، جزء كبير منها هو أن نتقبل الآخر المختلف عنا، وهذا ما على الدولة تدعيمه من خلال تثبيت مبدأ المواطنة، فمتى تحققت المواطنة لدى الفرد العراقي أصبحت له هويته الوطنية، التي يصعب على أي قوة خارجية أو داخلية ثنيها.
صدمة دخول القوات الأميركية واحتلال العراق سنة 2003، وكان لهذا الحدث وقع أكبر وأشد على البنية الاجتماعية السياسية في العراق، وهو بمثابة خيبة أمل للعراقيين الحالمين بدولة حقيقية
لم تصمد الهوية الوطنية أمام الأزمات!
تعرض الوجود الاجتماعي- السياسي في العراق لصدمتين كبيرتين، كان لهما أثر كبير في تكوين البنية الاجتماعية والسياسية وحتى الأيديولوجية للعراقيين.
الأولى تمثلت في الاحتلال الإنجليزي للعراق سنة 1917، وهذا الحدث هو بمثابة انعطافة تاريخية كبيرة، وصدمة أخرجت – ولو نسبيًا – الجماعات العراقية من عزلتها المناطقية والعشائرية بدوافع عاطفية، على أمل تأسيس دولة عراقية مستقلة.
الثانية هي صدمة دخول القوات الأميركية واحتلال العراق سنة 2003، وكان لهذا الحدث وقع أكبر وأشد على البنية الاجتماعية السياسية في العراق، وهو بمثابة خيبة أمل للعراقيين الحالمين بدولة حقيقية.حدثٌ كان العراقيون يعتقدون بأنه سوف يقودهم إلى التعلم من أخطاء الماضي، وبناء هوية عراقية وطنية، وأسس لدولة مدنية قوية.
عام 2003 عزف الاحتلال على وتر الطائفية الأهلية ليجر العراق إلى حرب أهلية راح ضحيتها الآلاف، ثم صدمة عراقية أخرى لم تصمد أمامها الهوية الوطنية، وهي دخول تنظيم الدولة الإرهابي عام 2014، إلى أن جاءت لحظة انعطاف في تاريخ العراق الحديث، وهي احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول 2019، التي أعادت شيئًا كبيرًا من هويتنا العراقية، ولملمت شتاتنا عندما شعر الفرد العراقي بوجود هويته الضائعة.
إنْ أصررنا على أن نكابد ما نعيشه فإننا سنكون بعيدين جدًّا عن تلك المساحة التي من خلالها تكونت الأمم والدول، ألا وهي الهوية
من يتحمل المسؤولية الكبرى في تشتيتنا؟
أنا – كمواطن عراقي أولًا- من الذين يعتقدون بأننا نتحمل المسؤولية الكبيرة في ضياع هويتنا العراقية، ولا ألقي باللوم على السلطة أولًا؛ فنحنُ من نحتاج إعادة بناء هويتنا العراقية، وإعادة صقلها من جديد والبداية مع ذاتنا؛ الذات العراقية التي يجب أن تغادر حقل المكونات والطوائف والتقاليد والأحكام والأعراف التي تُقصي الآخر وتجعله عدوًّا لا شريكًا أساسيًّا في هذا الوطن.
فنحن ما زلنا ضحايا كل تلك المعتقدات التي رسختها الحكومات التي توالت على الحكم في العراق، وعلينا أن نغادر الدوائر الضيقة للهوية، وأن نسمح بالاختلاف ونتعايش معه، وإن أصررنا على أن نكابد ما نعيشه فإننا سنكون بعيدين جدًّا عن تلك المساحة التي من خلالها تكونت الأمم والدول، ألا وهي الهوية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.