شعار قسم مدونات

اعرف عدوك

صور استشهاد يحيى السنوار منصة اكس- @umm_qari
تتلاشى صورة رجل الصحراء الإرهابي أمام صورة السنوار وهو يلقي بعصاه في لحظاته الأخيرة (مواقع التواصل الاجتماعي)

عرف مفهوم العدو تطورًا كبيرًا مع تعاقب الأزمنة والحضارات الإنسانية؛ فقد كان يدل في العصور الأولى على الخطر المباشر المرتبط بالحروب، وهو المعنى الذي حدده أرسطو حين ربط بين مفهوم العدو ومفهومي الحرب وتعارض المصالح.

في العصر الحديث اتخذ مفهوم العدو دلالات رمزية لا تربطه بالضرورة بممارسة القوة الحربية، إذ رأى جان جاك روسو أن العدو قد لا يكون بالضرورة أفرادًا أو جماعات، بل قد يتشكل في صورة فساد أو قمع

وفي العصور الوسطى تم إضفاء صبغة عقائدية وثقافية على مفهوم العدو؛ فقد تم شن الحروب الصليبية ضد من أسماهم البابا أوربان الثاني أعداء الله تحت غطاء عقائدي محض.

أما في العصر الحديث فقد اتخذ المفهوم دلالات رمزية لا تربطه بالضرورة بممارسة القوة الحربية، إذ رأى جان جاك روسو أن العدو قد لا يكون بالضرورة أفرادًا أو جماعات، بل قد يتشكل في صورة فساد أو قمع، وإذا كان الفكر الماركسي قد أصبغ طابعًا طبقيًّا على مفهوم العدو، فإن الاختلاف العرقي وحده كان معيارًا لتحديد العدو عند الفاشية والنازية.

كما كان للفكر الاستعماري في القرن العشرين بصمة واضحة في صناعة صورة العدو، بدءًا من صناعة صورة الآخر المتخلف والجاهل، واستغلالها في تحديد الغرب لهويته وكينونته التي هي على النقيض تمامًا لما هو عليه هذا الآخر، وصولًا إلى استخدام هذه الصورة في إضفاء طابع الشرعية على كل الممارسات الاستعمارية ضد الشرق، باعتباره عدوًّا لقيم التحضر والعقلانية كما أوضح ذلك إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق".

إعلان

وحتى مع نهاية الفترة الاستعمارية، بقيت صورة الشرق باعتباره مصدرًا للخطر ورمزًا للتخلف راسخة في مخيلة الإنسان الغربي، لتضاف إليها مع أحداث 11 سبتمبر/ أيلول سردية الإرهاب، ويتم استخدامها مجددًا لشرعنة جميع أشكال التدخل المباشر عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وتحديد مصير عددٍ من دول العالم العربي.

تتلاشى صورة رجل الصحراء الإرهابي أمام صورة السنوار وهو يلقي بعصاه في لحظاته الأخيرة، أو صورة رجل يُخرج أبناءه من تحت الأنقاض، أو صورة طالب يناقش رسالة تخرجه وسط دمار الحرب

اليوم، ومع ما يشهده العالم من صراعات وأحداث، أبرزها الحرب على غزة، وفي ظل تغطية وسائل التواصل الاجتماعي لهذه الأحداث، تمكّن الغرب من الاطلاع على جانب آخر من الصورة، جانب لم تكن تعرضه وسائل الإعلام الغربي، كما لم تكن حتى الدراسات الأكاديمية والأعمال العلمية في سياقها العام تتناوله.

يكتشف العالم اليوم صورة جديدة للإنسان الشرقي، صورة تختلف عن تلك التي تُظهره كرجل أشعث أغبر يقف وسط الصحراء حاملًا سلاحًا رشاشًا بيد، وممسكًا شعر امرأة يعذبها بيده الأخرى، حيث تعرض وسائل التواصل اليوم – ورغم كل ما تتعرض له من توجيه عن طريق الخوارزميات وحملات الحجب والاعتراض والتجسس والرقابة اللامشروعة – صورة مختلفة لرجال ونساء وأطفال، يكافحون رغم وابل الصواريخ المنهمرة فوق رؤوسهم للصمود على أرضهم، والدفاع عن حقهم في تقرير مصيرهم، بوعي وثبات منقطع النظير.

والأهم، أن مواقع التواصل استطاعت طرح نقاشات حقيقية وغير موجهة إلى حد كبير، تعكس الرأي والرأي المخالف، فضلًا عن التعريف بالقضية وجذورها التاريخية. بحيث تخطى الأمر استخدام وسائل البروباغندا المعتادة في الفضاء الرقمي، ليتم تقديم تغطية توازن بين الجانب الإنساني والعاطفي للأحداث، وبين الارتباطات التاريخية والسياسية والحقوقية للقضية الفلسطينية.

عدو الإنسان المعاصر اليوم – في الشرق كما في الغرب – هو فكر استبدادي نفعي يخدم مصالح النظام العالمي الجديد، وإسرائيل هي جزء لا يتجزأ من هذا الفكر

تتلاشى صورة رجل الصحراء الإرهابي أمام صورة السنوار وهو يلقي بعصاه في لحظاته الأخيرة، أو صورة رجل يُخرج أبناءه من تحت الأنقاض، أو صورة طالب يناقش رسالة تخرجه وسط دمار الحرب.

إعلان

إذن، من العدو اليوم؟ هل ما زال بالإمكان اختزال العدو في صورة مادية لدولة أو جيش؟ هل يصح أن نعتبر إسرائيل عدوًّا وحيدًا أوحد لمبادئ السلام والإنسانية؟ ماذا عمن يقف خلف إسرائيل؟ وهنا لا أقصد أنظمة بعينها، غربية كانت أو عربية، وإنما الفكر الذي يدعم كل هذا الاستبداد والطغيان، ويضفي عليه مشروعية الأمر الواقع.

عدو الإنسان المعاصر اليوم -في الشرق كما في الغرب- هو فكر استبدادي نفعي يخدم مصالح النظام العالمي الجديد، وإسرائيل هي جزء لا يتجزأ من هذا الفكر الذي قد لا يتخذ بالضرورة صور ممارسات عنيفة كالإبادة والتهجير، وإنما قد يتلون أيضًا في صور ناعمة للقمع والتجهيل عبر كل السبل والوسائل، ومصدره ليس دائمًا خارجيًّا.

ختامًا، وحتى نكسب هذه الحرب، يجب أولًا أن نعرف من هو العدو مهما اختلفت الأقنعة التي يواجهنا من خلفها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان