في واقع التسليم بمجريات الأحداث التي تندفع لإحداث متغيرات كحتمية إنسانية؛ تبرز برامج الحماية الاجتماعية الأفق المتسع في تقليل الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، والتعمق في الإحاطة بمتطلبات الفئات الأكثر هشاشة، دون الوصول إلى التوقعات التي تتفاوت من واقع إلى واقع آخر بحسب ما تفرضه من خصوصية مجتمعية أو أبعاد، وفق مفاهيم الثراء الإنساني والثروات المتاحة.
فالتوقع الإنساني بحيثياته يميل إلى الثراء القريب والسريع، خاصة عندما يكون لديه اشتراك أو مشاركة مدفوعة، فيما يتأسس المتطلب العام في تصميم برامج الحماية الاجتماعية على ثراء التكافل والتكامل المجتمعي، وتعاقب الأجيال، وتحقيق الاستدامة البعيدة والتي لا يمكن أن تستقر إلا من خلال بناء دقيق وحازم، مع وضع التغير والمتغير في الحيز الزماني والمكاني.
المتغيّر الذي يشكّل أبعاد التحول، يتمثل في التأقلم مع الأزمات الاقتصادية والمالية والصحية، التي فرضت في العقد الأخير تحديات كبيرة على منظومات الحماية الاجتماعية
في إطار إصلاحي متعمق يبرز في سياق الحماية الاجتماعية مفهومان متشابكان، يدفع كل منهما الآخر وفق معطيات الحياة البشرية: التغيّر كحتمية نابعة من متطلبات سياسية وتطورات اجتماعية واقتصادية، والمتغيّر المتشكّل وفق سلم الأحداث وتأزمها على مفردات الحياة من البساطة إلى التعقيد، ومن الجمود إلى المرونة، ومن الإرباك إلى التنظيم، ومن الإشكال إلى الحل، باعتبارها المؤثر الخارجي والداخلي الذي يدفع بإعادة التفكير في تصميم منظومة الحماية ومدى صلاحيتها وثباتها.
فالتغيّر يتماشى مع التطورات الطبيعية، والتي تكون استجابة للتحديات والرغبة في التحوّل والتحسين في أسس الرعاية والتوسع في تغطية الفئات المبعثرة من مبدأ تعزيز المساواة، واستثمار التحول الرقمي في إطار تحسين الكفاءة تماشيًا مع توقعات أفراد المجتمع، وهذا هو النموذج الذي قدمته سلطنة عُمان في تصميم وبناء منظومة الحماية الاجتماعية، والذي جعلها نموذجًا يحقق الجائزة الرئيسة للجمعية الدولية للضمان الاجتماعي (ISSA) لأفضل الممارسات على مستوى إقليم آسيا والمحيط الهادئ في دورتها الحالية 2024، وفقًا لمعايير الجمعية التي تضم مؤسسات الضمان الاجتماعي في العالم.
أما المتغيّر الذي يشكّل أبعاد التحول، فيتمثل في التأقلم مع الأزمات الاقتصادية والمالية والصحية، التي فرضت في العقد الأخير تحديات كبيرة على منظومات الحماية الاجتماعية، ما دفعها إلى عمل مراجعات جذرية لتحقيق عنصر الاستدامة شكلًا ومضمونًا، ويتماهى مع احتياجات المجتمعات بشكل متزن، مع المحافظة على مراكزها المالية المتذبذبة.
التطلعات الشعبية ما زالت تعيش على آمال المرحلة السابقة، عندما كانت برامج الحماية الاجتماعية (نظم التقاعد) أكثر انفلاتًا في سخائها بدون حوكمة تعزز استدامتها
في منطقة الخليج يظهر المتغيّر في إيجاد الحلول المناسبة، وتوسيع هوامش التنويع الاقتصادي المعتمد على الثروات البترولية من أجل ضمان استدامة واستمرارية برامج الحماية، ولعل التركيز الأساسي يبتعد عن مسائل التنويع إلى فضائل التخارج من الاعتماد على النفط كثروة وحيدة، والبحث عن بدائل أكثر "حفاوة" وبقاءً، توازن بين سخاء الإنفاق وتحسين مستويات المعيشة بعدالة ومساواة.
وفي سياق المتغيّر تبرز التغيرات الديمغرافية بشكل كبير خاصة فيما تشهده المنطقة من أحداث، تؤثر في مفهوم شيخوخة السكان، وتغيّر الأنماط الأسرية في المعيشة، وتأثر معدل "الخصوبة"؛ لذلك كانت الحاجة في تكييف السياسات الاجتماعية لبرامج الحماية أمرًا مهمًّا، ويتكامل مع حلحلة ملفات الباحثين عن عمل بشكل دقيق، إذا ما أرادت الدول تقديم النموذج المتفرّد، إلى جانب وضع دخل الفرد أحد الممكنات في زيادة عدد السكان، وتعزيز شبكات الأمان الصحي والاجتماعي.
لقد استطاعت منظومة الحماية الاجتماعية في سلطنة عُمان دمج التغيّر والمتغيّر وفق مرونة واستدامة تستجيب للتغيرات المستقبلية، وتتكيّف مع المتغيّرات الطارئة، ما جعل تصنيفها على المستوى العالمي يتقدم لتكون نموذجًا يدفع بعمليات التحسن والمراجعات وفق مستهدفات رؤية عُمان 2040، إلا أن التطلعات الشعبية ما زالت تعيش على آمال المرحلة السابقة، عندما كانت برامج الحماية الاجتماعية (نظم التقاعد) أكثر انفلاتًا في سخائها بدون حوكمة تعزز استدامتها.
إن حماية الأجيال الحالية والمستقبلية من المخاطر الاقتصادية والاجتماعية، وتشابكها مع المخاطر السياسية التي تحركها وفق أجندات القوة والضعف، لا يكون إلا من خلال بناء شراكات متكاملة تعزز العدالة الاجتماعية
إن التمازج والتوافق بين تلك المفردات وإحداث التغيير ينقل أفراد المجتمع من منطقة الراحة المعتادة إلى تحفيزهم على تحمّل مسؤولياتهم تجاه أنفسهم ومجتمعاتهم، وإحياء قيم التكافل والتكاتف التي تأسس عليها الفكر الإسلامي، وبها تتحول برامج الحماية الاجتماعية من مجرد أداة لتحقيق مكاسب مؤقتة إلى رؤية متزنة ووسيلة للتنمية المستدامة.
وفي أفق حتمية التغيير في الاتجاه الطوعي أو القسري لمنظومة الحماية الاجتماعية، فمن البديهي أن تتشكّل المقاومة في الاتجاه القسري، خاصة إذا كان نمط الحياة ينظر إلى الرفاهية المطلقة وربطها بمتطلبات شبكات الأمان الاجتماعي التي لم تحقق الاستدامة، وهنا يتطلب أن تدار تلك المتغيرات بحكمة وحنكة ونظرة متصاعدة تعتمد على الأجيال الناشئة في تغيير ما يعد من الثوابت أو في خانة الحقوق المكتسبة.
وبالتالي يمكن تحويل التحدي القسري إلى طوعي باستثمار المنطقة الرمادية بينهما عبر نافذة الشفافية الفعلية والتخطيط بنظرة بعيدة المدى، حتى تتعزز استدامة التحولات والتغيير، ويكون لواضعي السياسات الاجتماعية هامش مرن في تلافي الحسابات المعقدة وتبسيط الآليات التي يجب أن تخضع للتجارب، وليس التماثل مع مجتمعات أخرى.
وعليه؛ فإن حماية الأجيال الحالية والمستقبلية من المخاطر الاقتصادية والاجتماعية، وتشابكها مع المخاطر السياسية التي تحركها وفق أجندات القوة والضعف، لا يكون إلا من خلال بناء شراكات متكاملة تعزز العدالة الاجتماعية.
ومع بروز النموذج العُماني كدراسة حالة متفردة يستحق البحث والتقصي والمتابعة نظرًا لما يعكسه من ميزة وجدية في التعامل مع المتغيرات واستثمار التغيرات لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة، فلا بد من منح هذا النموذج على المستوى الداخلي فرصة كي ينال نصيبًا من التقييم كحالة على أرض الواقع.
مع تزايد الأزمات، وتوجهات الدول المتقدمة نحو الاهتمام بالقوة العسكرية عبر ترسانة التسلح، التي زادت من تأثير الأزمة الثلاثية المتمثلة في تغير المناخ والتلوث وفقدان التنوع البيولوجي، فقد أصبحت مهددات الحماية الاجتماعية تتزايد وتتوسع الفجوات في قطبي المعادلة
وبين التغير والمتغير تبرز المرونة والاستدامة كأسس وقيم ظاهرة في تصميم منظومة الحماية الاجتماعية في سلطنة عُمان، وتتشارك وتتمازج مع الشراكات المجتمعية لتتكيف مع التحديات، وتحقق التوازن الفعلي بين التغير التدريجي والاستجابة للمتغيرات الطارئة عبر إطار التخطيط الإستراتيجي بعيد المدى، والمتمثل في رؤية عُمان 2040، لذلك استطاع صندوق الحماية الاجتماعية الدمج بين التغيّر والمتغيّر، وتأسيس المنظومة لتكون جسرًا متصلًا بين الأجيال، وفق مسار ادخاري يعزز من قوتها واستدامتها.
في اتجاه عالمي وبحسب تقرير الحماية الاجتماعية في العالم للفترة 2024ـ 2026 (الحماية الاجتماعية الشاملة من أجل العمل المناخي والانتقال العادل) الصادر عن منظمة العمل الدولية‘ فإنه ما زال 3.8 مليارات شخص غير مشمولين بتغطية الحماية الاجتماعية.
ومع تزايد الأزمات، وتوجهات الدول المتقدمة نحو الاهتمام بالقوة العسكرية عبر ترسانة التسلح، التي زادت من تأثير الأزمة الثلاثية المتمثلة في تغير المناخ والتلوث وفقدان التنوع البيولوجي، فقد أصبحت مهددات الحماية الاجتماعية تتزايد وتتوسع الفجوات في قطبي المعادلة.
إن الإصلاحات الهيكلية التي تشهدها برامج الحماية الاجتماعية تسعى إلى ردم الهوة وتقليص الفجوات في مسألة التمويل، وتغطية الشمول والمحافظة على المركز المالي، وفق بناء يترابط مع الاستقرار السياسي والاجتماعي، باعتبارها أولوية وطنية ثابتة لا يمكن أن ترتبط بالتقلبات الانتخابية في المشهد العالمي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.