على مرّ التاريخ، قدّم التعليم والثقافة أدوات لارتقاء الإنسان وتحقيق العدالة والازدهار.. ولكن في حالات استثنائية، تحوّلت هذه الأدوات إلى وسائل تُستخدم في أبشع الجرائم ضد الإنسانية، ما يجعل السؤال عن دور التعليم والثقافة في تهذيب النفوس محل تساؤل. أبرز مثالين لهذه الظاهرة هما رادوفان كاراديتش، جزار صرب البوسنة، وبشار الأسد، الطبيب الذي حوَّل سوريا إلى أطلال.
بشار الأسد، طبيب العيون المدرب في بريطانيا، والذي عُرف بولعه بالموسيقى الغربية، يشبه كاراديتش في ازدواجية الشخصية
رادوفان كاراديتش: طبيبٌ وشاعرٌ يتحوّل إلى سفاح
رادوفان كاراديتش، طبيب نفسي وشاعر وعاشق للموسيقى، كان من المفترض أن يكون رمزًا للإنسانية والإبداع، لكنه أصبح العقل المدبّر لجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد مسلمي البوسنة في تسعينيات القرن الماضي. قاد كاراديتش المليشيات الصربية في ارتكاب مجازر بشعة، مثل مذبحة سربرنيتسا، التي راح ضحيتها أكثر من 8,000 مسلم بريء.
الغريب في شخصية كاراديتش أنه كان يمارس الكتابة الشعرية ويعزف الموسيقى، لكن هذا الجانب الثقافي لم يمنعه من التخطيط لأفظع الجرائم!. ربما لأنه رأى في نفسه "رسولًا" يحقق رؤية قومية مريضة، متناسيًا إنسانيته ومسؤولياته كطبيب.
كاراديتش كان طبيبًا وشاعرًا، والأسد كان طبيبًا ومثقفًا، لكنهما استخدما تعليمهما وثقافتهما في خدمة أجندات دموية
بشار الأسد: طبيب العيون الذي أعمى بلاده
بشار الأسد، طبيب العيون المدرب في بريطانيا، والذي عُرف بولعه بالموسيقى الغربية، يشبه كاراديتش في ازدواجية الشخصية. كان من الممكن أن يصبح رمزًا للحداثة والانفتاح في منطقة الشرق الأوسط، لكنه اختار أن يسير على طريق القمع والإبادة.
حول الأسد سوريا، التي كانت تُعرف بأنها "سلة غذاء الشرق الأوسط" وواحة للأمن والثقافة، إلى دولة فاشلة وميدان للحروب الأهلية.. استخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبه، ودمر مدنًا بأكملها، وتسبب في نزوح الملايين، ولم تكن وحشيته أقل من وحشية هتلر أو موسوليني، بل ربما تفوّق عليهما بقدرته على تدمير بلده من الداخل.
التعليم والثقافة لا يكفيان لتهذيب النفوس
تكشف قصتا كاراديتش والأسد عن حقيقة صادمة: التعليم والثقافة ليسا ضمانًا للأخلاق أو الإنسانية.. يمكن للشخص المتعلم – حتى الطبيب- أن يتحول إلى مجرم إذا لم تكن هناك مؤسسات تراقب سلوك الأفراد وتضبطهم.
كاراديتش كان طبيبًا وشاعرًا، والأسد كان طبيبًا ومثقفًا، لكنهما استخدما تعليمهما وثقافتهما في خدمة أجندات دموية. هذه الحالات تؤكد أن القتلة والمهووسين، مهما بلغ تعليمهم أو حبهم للفنون، مكانهم الطبيعي هو المصحات العقلية أو السجون، وليس قيادة الدول.
هتلر وموسوليني دمّرا العالم في فترة قصيرة، لكنهما لم يبيدا شعبيهما بالطريقة التي فعلها الأسد؛ فبينما كان هتلر يستغل الحرب العالمية لتحقيق طموحاته القومية، كان الأسد يقصف شعبه بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية فقط للحفاظ على سلطته
دروس من التاريخ: بناء المؤسسات هو الحل
إن الدول التي تسعى للنمو والازدهار يجب أن تتعلم من هذه الأمثلة المؤلمة.. لا يمكن لأي دولة أن تحقق الاستقرار دون وجود مؤسسات قوية تُبنى على أسس دستورية وقانونية حاسمة.
ومن أهم أسس الحكم الرشيد:
- تداول سلمي وديمقراطي للسلطة: يمنع تركز السلطة في يد شخص واحد وتحويله إلى ديكتاتور.
- توازن بين السلطات: يضمن الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
- صحافة حرة ومستقلة: تكشف الفساد والانتهاكات دون خوف.
- قوانين رادعة: تمنع ظهور طغاة جدد وتضع القتلة والمجرمين تحت طائلة القانون.
بدون هذه المبادئ، يمكن لأي طبيب أو شاعر أو مثقف أن يتحول إلى هتلر جديد، أو موسوليني آخر.
هل بشار الأسد أسوأ من هتلر وموسوليني؟
قد يبدو هذا الوصف مبالغًا فيه، لكنه يستند إلى حقائق مروعة.. هتلر وموسوليني دمرا العالم في فترة قصيرة، لكنهما لم يبيدا شعبيهما بالطريقة التي فعلها الأسد؛ فبينما كان هتلر يستغل الحرب العالمية لتحقيق طموحاته القومية، كان الأسد يقصف شعبه بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية فقط للحفاظ على سلطته.
الدول التي تريد أن تزدهر وتنمو عليها أن تبني مؤسسات قوية قادرة على ردع أي محاولة للتحول إلى حكم استبدادي
الخلاصة: لا مكان للسفاحين في عالم متحضر
التاريخ يعيد نفسه بأشكال مختلفة، لكن العالم بحاجة إلى أن يتعلم من أخطائه.. يجب أن تكون قصتا كاراديتش والأسد دروسًا للتحذير من مخاطر ترك السلطة في أيدي الأشخاص الذين يعانون من جنون العظمة.
الدول التي تريد أن تزدهر وتنمو عليها أن تبني مؤسسات قوية قادرة على ردع أي محاولة للتحول إلى حكم استبدادي. فلا مكان في المستقبل للقتلة والسفاحين، حتى لو كانوا أطباء أو شعراء أو عشاقًا للفنون.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.