في صبيحة يوم الأحد الموافق للثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول، هذا اليوم المبارك والتاريخ المبارك اللذان لن ينساهما السوريون للأبد، تنفست دمشق الأبية – مدينة الياسمين وعاصمة الأمويين – عبق الحرية.. فر الطاغية وأزلامه، واستعاد الشعب السوري العظيم حريته وسيادته وكرامته على أرضه، بعد طول صبر ومعاناة، وبعد كثير من القهر والتضحيات.
سطر بزوغ شمس يوم الأحد المبارك نهاية حقبة سوداء لحكم طائفي بغيض، امتدّ لأكثر من نصف قرن كاتمًا على أنفاس السوريين، ورسم بداية مرحلة جديدة ستكون أجمل بإذن الله، لتعوض السوريين عن كل المرارة والقهر والظلم والتشرد الذي عاشوه خلال السنوات المنصرمة.
الشعب السوري ليس مطالبًا اليوم بإعادة اختراع العجلة، بل بالاستفادة من كل التجارب العملية والنظريات العلمية، التي سطرها عباقرة وعلماء في السياسة والإدارة والعلاقات الدولية من أجل قيادة المرحلة وتجاوز الأزمة
بناء سوريا الجديدة الحرة المزدهرة هي مهمة ومسؤولية كل سوري حر شريف من كل الطوائف؛ فالثورة إنما قامت ضد التمييز المقيت وضد الطائفية البغيضة التي كرسها النظام السابق، قامت لتعيد سوريا لكل السوريين، ولتقيم فيهم العدل الكامل، فتضرب على يد كل ظالم وتنصف كل مظلوم، حتى يستقيم الأمر وتتم النعمة، ويقطف الجميع ثمار الحرية.
مرحلة بناء سوريا الجديدة لن تكون سهلة، فهي مرحلة مليئة بالفرص العظيمة والتحديات الجسيمة.. مرحلة تحتاج للتعاضد والتكاتف الداخلي بين أبناء الشعب السوري من جهة، ولكنها بحاجة أيضًا لتعاون بناء ومثمر من قبل المجتمع الدولي والمنظمات الدولية الفاعلة لدعم عمليات بناء سوريا الدولة والشعب والمؤسسات، وتحقيق انتقال نوعي لهذا البلد العظيم من مرتع للمفسدين إلى واحة للنمو والازدهار، بما يعود نفعه على الجميع داخليًا وإقليميًا ودوليًا.
هذا الانتقال يجب أن يُبنى على أسس علمية وعملية متينة، فالشعب السوري ليس مطالبًا اليوم بإعادة اختراع العجلة، بل بالاستفادة من كل التجارب العملية والنظريات العلمية الرصينة، التي سطرها عباقرة وعلماء في السياسة والإدارة والعلاقات الدولية من أجل قيادة المرحلة وتجاوز الأزمة، والوصول إلى الأهداف المنشودة بفاعلية وكفاءة.
سنحاول بإذن الله في سلسلة مقالات متتالية أن نسلط الضوء على أهم المحاور والنقاط، التي يمكن الاستناد إليها في إدارة المرحلة الجديدة في سوريا، كبناء النظام السياسي، والمصالحة الوطنية والحوكمة، وإعادة بناء المؤسسات، والتعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار، والسياسة الخارجية، والتعامل مع إرث الحرب.
في البوسنة والهرسك، ورغم الاستقرار النسبي، فإن النظام السياسي المفروض من الخارج بعد اتفاقية دايتون للسلام عام 1995 قد أدى إلى ما يشبه الشلل في المؤسسات، وعدم القدرة على اتخاذ قرارات فعالة
نبدأ هذه المقالة بإذن الله بمقدمة عامة حول أهمية البعد المحلي والثقافي في إعادة بناء سوريا، والتنبيه لخطورة استيراد قوالب سياسية واقتصادية جاهزة.
- أهمية البعد المحلي في إعادة بناء سوريا.. نحو نهج مستدام
مع دخول سوريا مرحلة جديدة بعد سنوات من الصراع، تبرز الحاجة الملحة لإعادة بناء الدولة على أسس متينة ومستدامة. في هذا السياق، يُعد التركيز على البعد المحلي، وتحديد احتياجاته واحترام خصوصيته، حجر الزاوية في أي عملية ناجحة لبناء السلام.
وتشير تجارب دولية كثيرة، كما أوردها Roland Paris في كتابه "At War’s End: Building Peace After Civil Conflict"، وRoger Mac Ginty في كتابه "The Local Turn in Peacebuilding" إلى أن فرض نماذج سياسية أو اقتصادية جاهزة كالديمقراطية الليبرالية أو اقتصاد السوق أو غيرها دون تكييف مع السياق المحلي غالبًا ما يؤدي إلى الفشل، وهذا ما يجعل الشراكة مع المجتمعات المحلية واحترام خصوصياتها أمرًا حتميًا.
الأمثلة الدولية التي توضح النتائج الكارثية المترتبة على فرض نظم جاهزة على دول خارجة من صراعات معقدة وطويلة الأمد متعددة للغاية. ففي البوسنة والهرسك، ورغم الاستقرار النسبي، فإن النظام السياسي المفروض من الخارج بعد اتفاقية دايتون للسلام عام 1995 قد أدى إلى ما يشبه الشلل في المؤسسات، وعدم القدرة على اتخاذ قرارات فعالة.
فاتفاقية دايتون قد أنشأت نظامًا يعتمد على تقاسم السلطة لضمان تمثيل المجموعات العرقية في البلاد، ما خلق تعددًا في مستويات الحكم، وأدى في النهاية إلى تعقيد وبطء اتخاذ القرارات وإدارة السياسات، وظهور الفيتو العرقي، حيث تستطيع أي مجموعة عرقية رئيسية عرقلة القوانين والسياسات التي تعتقد أنها "ضد مصالحها"، ما أدى في كثير من الأحيان إلى شلل مؤسسي، وارتفاع معدلات الفساد، وانعدام الوحدة الوطنية بدلًا من العمل على بناء هوية وطنية موحدة.. هذا المثال يتكرر في كثير من البلاد أيضًا مثل العراق بعد الغزو الأميركي، ولبنان الذي تأسس بناءً على الميثاق الوطني 1943 واتفاق الطائف 1989.
اللامركزية الإدارية من خلال تمكين الحكم المحلي، وإعطاء صلاحيات أكبر للإدارات المحلية تتيح للمجتمعات اتخاذ قرارات تناسب احتياجاتها
سوريا دولة تمثل فسيفساء اجتماعية معقدة، حالها كحال العديد من الدول في المنطقة، وقد يعتقد البعض بأن هذه الفسيفساء تفرض إقامة نظام محاصصة ذي بعد طائفي.. هذا الاتجاه تعززه ربما مطالبات مبكرة من العديد من الدول الفاعلة بضرورة تمثيل كافة مكونات المجتمع السوري في النظام الجديد.
مع ذلك، إذا كان طلب المجتمع الدولي بتمثيل كافة الطوائف يعكس رغبة في تحقيق توازن سياسي، يضمن مشاركة جميع المكونات الاجتماعية، فإن السير في هذا الاتجاه دون رؤية واضحة يمكن أن يؤدي إلى مشكلات هيكلية طويلة الأمد. لحل هذه الإشكالية هناك العديد من العناصر، يجب أن تؤخذ بشكل جدي في تصميم النظام الجديد، نوردها فيما يلي:
- أولًا: بناء نظام سياسي على أساس المواطنة، إذ يجب أن يكون النظام السياسي مبنيًا على المساواة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن الطائفة أو العرق أو الدين.
- ثانيًا: بناء نظام انتخابي شامل وعادل ولكن غير طائفي، يتم تصميمه ليعطي الفرصة لجميع السوريين للترشح والتصويت دون قيد طائفي.
- ثالثًا: ضمان العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ومعالجة التفاوتات من خلال تقليل الفجوات الاقتصادية والاجتماعية التي تزيد من حدة الانقسامات، وتوزيع الموارد والخدمات بشكل عادل بين جميع المناطق والمكونات.
- رابعًا: اللامركزية الإدارية من خلال تمكين الحكم المحلي، وإعطاء صلاحيات أكبر للإدارات المحلية تتيح للمجتمعات اتخاذ قرارات تناسب احتياجاتها. مع ذلك، فإن وحدة القرار الوطني يجب أن تبقى مُصانة بحيث تكون اللامركزية إدارية فقط، مع الحفاظ على وحدة القرار السياسي في الدولة المركزية.
الدعم الدولي مع مراعاة السيادة.. ودور المجتمع الدولي – إن أراد خيرًا بسوريا والسوريين- ينحصران في تقديم الدعم الفني والمالي لإنجاز التجربة، دون فرض نموذج مسبق أو محدد سلفًا
- خامسًا: تحقيق المصالحة الوطنية وتعزيز الحوار، من خلال إطلاق برامج مصالحة وطنية تهدف إلى تجاوز جراح الماضي، وبناء الثقة بين مختلف المكونات، ومحاسبة من ارتكب جرائم خلال الحرب، مع توفير آليات للصفح والمصالحة.
- سادسًا: تعزيز وإشراك المجتمع المدني ليكون وسيطًا بين الدولة والمجتمع، وليساعد في تعزيز وبناء ثقافة سياسية غير طائفية، وليعزز الحوار بين جميع مكونات الشعب.
- سابعًا: صون القضاء واستقلاله.. فالقضاء المستقل والنزيه هو ركيزة أساسية لتحقيق العدالة والمصالحة الوطنية، وضمان سيادة القانون والمساواة أمامه. إعادة بناء النظام القضائي وتحصينه ضد الفساد والتأثيرات السياسية تضمن محاسبة عادلة وشفافية في جميع العمليات القانونية.
- ثامنًا: الدعم الدولي مع مراعاة السيادة.. ودور المجتمع الدولي – إن أراد خيرًا بسوريا والسوريين- ينحصران في تقديم الدعم الفني والمالي لإنجاز التجربة، دون فرض نموذج مسبق أو محدد سلفًا. فالحلول يجب أن تكون نابعة من داخل سوريا، ومستندة لأساس تلبية احتياجات السوريين أنفسهم.
هذه النقاط والمقترحات يمكن أن تساعد في بناء نظام عادل ومستدام، يضمن بإذن الله تقدم سوريا وشعبها بخطوات ثابتة نحو السلام والازدهار، والمساهمة الفاعلة تاليًا في استقرار وازدهار المنطقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.