بعد 13 عامًا من حرب أهلية دامية دمّرت البنية التحتية لسوريا، وشرّدت الملايين من أبنائها، بدا سقوط نظام بشار الأسد مشهدًا لم يكن يتوقعه كثيرون بهذا الشكل السريع وبهذه السهولة النسبية.
لقد سقط النظام خلال أيام قليلة دون مقاومة تذكر، وعبر سلسلة من الانهيارات المتعاقبة في مدن ومحافظات كانت تعتبر معاقل رئيسية للسلطة.
فكيف تمكّنت فصائل المعارضة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، من إحكام قبضتها على مدن إستراتيجية مثل حلب وحماة ودرعا والسويداء وصولًا إلى دمشق؟ ولماذا تراخى الجيش النظامي إلى هذا الحدّ؟ وما الذي جرى خلف الكواليس وجعل الداعمَين التاريخيين، روسيا وإيران، يتخلّيان عن رجلهما في دمشق؟
ما أثار الانتباه بشدة هو غياب أي خطاب أو ردّ فعل علني من جانب بشار الأسد منذ فقدان النظام لحلب وحتى سقوط دمشق
مسار السقوط: تقدّم خاطف وسلسلة انهيارات متتالية
بدأت شرارة التحوّل الأخير في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، حين اندلعت اشتباكات عنيفة في الريف الغربي لحلب بين قوات النظام وفصائل معارضة منظّمة، بدت أكثر تنسيقًا وانضباطًا من ذي قبل. خلال ثلاثة أيام فقط، في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، استطاعت الفصائل المعارضة السيطرة على مركز مدينة حلب، قلب الشمال السوري الاقتصادي السابق، بالتوازي مع بسط نفوذها الكامل على محافظة إدلب المجاورة.
لم يقتصر الأمر على الشمال؛ ففي الخميس التالي انهار خط الدفاع عن محافظة حماة (وسط البلاد) بشكل مفاجئ، وانسحبت قوات النظام دون مقاومة حقيقية تُذكر، مشيرة بذلك إلى خلل فادح في منظومة القيادة والسيطرة. وفي مساء الجمعة، اجتاحت الفصائل مركز محافظة درعا، مهد الثورة السورية عام 2011، وعادت رمزيتها لتذكّر بارتداد التاريخ: من شرارة انتفاضة سلمية إلى إسقاط النظام نفسه.
وتتابعت السلسلة، فكانت السويداء ذات الأغلبية الدرزية -التي لطالما عُرفت بحذرها وتوجسها من الإسلاميين- تسقط بيد المعارضة يوم السبت، تلتها حمص، وصولًا إلى دخول فصائل المعارضة فجر الأحد العاصمة دمشق، لتضع بذلك نهاية دراماتيكية لحكم الأسد الذي امتد لعقود.
السرعة التي انهارت بها دفاعات النظام تعكس اهتراءً داخليًا طالما حُذّر منه. سنوات الحرب المنهِكة، والفساد، والانقسامات الداخلية، والاعتماد المفرط على المليشيات والجهات الخارجية، أضعفت كثيرًا من قدرة الجيش النظامي على الصمود
غياب الأسد وانهيار قيادة الجيش
ما أثار الانتباه بشدة هو غياب أي خطاب أو ردّ فعل علني من جانب بشار الأسد منذ فقدان النظام لحلب وحتى سقوط دمشق. هذا الصمت، إلى جانب انسحاب الجيش دون قتال تقريبًا، يشير إلى تحوّل جذري في ولاءات القيادات العسكرية والأمنية.. تؤكد مصادر عسكرية سورية لوكالة "رويترز" أنّ الضباط أُبلغوا صراحة بأنّ "حكم الأسد انتهى"، الأمر الذي يشي بأن هناك اتفاقًا ضمنيًا أو أوامر عليا سهّلت هذا الانهيار السريع.
إنّ السرعة التي انهارت بها دفاعات النظام تعكس اهتراءً داخليًا طالما حُذّر منه. سنوات الحرب المنهِكة، والفساد، والانقسامات الداخلية، والاعتماد المفرط على المليشيات والجهات الخارجية، أضعفت كثيرًا من قدرة الجيش النظامي على الصمود حين توفرت للمعارضة فرصة هجوم منسق ومدروس.
تصريحات وزير الخارجية الإيراني بأنّ الأسد "صُدم بحالة جيشه" تعكس امتعاض طهران من عدم استجابة دمشق لنصائح المستشارين الإيرانيين في الأيام الأخيرة
دور روسيا وإيران: لماذا التخلي في اللحظة الحاسمة؟
لقد صمد نظام الأسد طويلًا بفضل الدعم الروسي والإيراني، سياسيًا وعسكريًا. غير أنّ المشهد الأخير أظهر تخلي هاتين الدولتين، أو على الأقل امتناعهما عن تقديم الدعم في اللحظة الحرجة. وتزداد الشكوك حين تصرّح موسكو رسميًا بأن الأسد "تنحى" بعد مفاوضات مع المتمردين، بحسب ما نقلته الأنباء الرسمية الروسية، في خطوة غريبة توحي بأنّ موسكو كانت طرفًا في ترتيبات المرحلة الأخيرة.
وبالمثل، تصريحات وزير الخارجية الإيراني بأنّ الأسد "صُدم بحالة جيشه" تعكس امتعاض طهران من عدم استجابة دمشق لنصائح المستشارين الإيرانيين في الأيام الأخيرة.
ما زالت الدوافع الحقيقية لهذا الموقف غير واضحة تمامًا، لكنّ المراقبين يلمحون إلى أنّ الروس والإيرانيين توصّلوا إلى قناعة مفادها أنّ التكاليف السياسية والاقتصادية والعسكرية لاستمرار الدفاع عن الأسد باتت باهظة جدًا، وأن ترتيبات جديدة مع القوى الإقليمية، وعلى رأسها تركيا، ومع العواصم الغربية قد تكون أكثر جدوى.
في الكواليس، هناك همس حول مطالب روسية للأسد بضرورة التفاهم مع تركيا، وتقليص النفوذ الإيراني في بلاده، وهو ما رفضه الأسد مرارًا، وربما ساهم هذا الرفض في إقناع موسكو وطهران برفع الغطاء عن رأس النظام. وهناك من يشير إلى صفقات أكبر تتضمن ملفات أخرى مثل أوكرانيا أو الملف النووي الإيراني، حيث تستخدم سوريا كورقة تفاوضية.
الولايات المتحدة التزمت الصمت النسبي خلال الأيام الأخيرة، تاركة المشهد دون تدخل مباشر.. لكن مراقبين يرون أنّ واشنطن قدّمت ضمانات بعدم السماح بدخول تعزيزات خارجية لدعم النظام، بل وقطعت الطريق على أي إمدادات محتملة من الشرق أو عبر لبنان
الدور التركي والأميركي والإسرائيلي: هندسة جديدة للمنطقة؟
كانت تركيا طرفًا فاعلًا في المعادلة السورية منذ بدايات الصراع؛ وطالما سعت أنقرة لاحتواء خطر الجماعات الكردية المسلحة على حدودها، وفي الوقت ذاته نسجت تفاهمات مع روسيا – وأحيانًا مع إيران- لضمان مناطق "خفض تصعيد".
لكنّ الأحداث الأخيرة تشير إلى أنّ تركيا ربّما أغمضت عينيها عن تقدّم الفصائل، بل وربما شجّعته بشكل غير مباشر، عبر ترتيبات مع موسكو. ينقل المراقبون أنّ الأتراك والروس سمحوا للفصائل بالاختراق وصولًا إلى دمشق، ضمن اتفاقيات ربما جرت خلف الأبواب المغلقة، وفي إطار إعادة هندسة المشهد السياسي بما يضمن مصالح الجميع.
أما الولايات المتحدة، فقد التزمت الصمت النسبي خلال الأيام الأخيرة، تاركة المشهد دون تدخل مباشر.. لكن مراقبين يرون أنّ واشنطن قدّمت ضمانات بعدم السماح بدخول تعزيزات خارجية لدعم النظام، بل وقطعت الطريق على أي إمدادات محتملة من الشرق أو عبر لبنان.
وبخصوص إسرائيل، فقد تحدّثت الصحف الإسرائيلية عن يوم "تاريخي"، إذ لطالما رأت في الأسد امتدادًا للنفوذ الإيراني في سوريا. وتم تسريب أنباء عن اتصالات إسرائيلية مع الأكراد في الشمال السوري، ما يوحي بأن تل أبيب تستعد لمرحلة ما بعد الأسد عبر نسج تحالفات مع أطراف محلية.
ما زالت الدول الغربية تصنّف بعض هذه الفصائل كمنظمات إرهابية، وقد لا تكتفي بالخطاب المرن للجولاني، ما لم تجد إصلاحات جذرية والتزامات دستورية حقيقية
فصائل المعارضة وسيناريوهات الحكم المقبل
هيئة تحرير الشام بقيادة "أبو محمد الجولاني" برزت كقوة محورية في هذا الهجوم الخاطف. اللافت أنّ زعيمها، الجولاني، بدا حريصًا خلال مقابلات أجراها مؤخرًا على طمأنة الأقليات السورية والعواصم الغربية، معلنًا نيات لتبني رؤية أكثر اعتدالًا، وربما أقل إقصاءً من الماضي.
هذا الانفتاح الخطابي يشير إلى أنّ قادة المعارضة يدركون أنّ مرحلة "الانتصار العسكري" لا تكفي وحدها لضمان شرعية دولية وإقليمية، وأنّ ثمة حاجة لبناء تحالفات أوسع، وإيجاد صيغ حكم قابلة للاستمرار.
لكن هذه العملية لن تكون سهلة؛ فالمعارضة التي أسقطت الأسد ليست كتلة واحدة متناغمة، بل هي ائتلاف من فصائل إسلامية مختلفة الرؤى والأهداف. الإدارة المرحلية للمدن التي سقطت في يدهم – كما حدث في حلب من استدعاء الموظفين وتوزيع هويات جديدة- قد توحي بوجود خطط مسبقة، ولكن الانتقال من مرحلة القتال إلى مرحلة بناء نظام سياسي مقبول دوليًا وشعبيًا سيكون تحديًا صعبًا.
وما زالت الدول الغربية تصنّف بعض هذه الفصائل كمنظمات إرهابية، وقد لا تكتفي بالخطاب المرن للجولاني، ما لم تجد إصلاحات جذرية والتزامات دستورية حقيقية.
أسيتحوّل النصر العسكري الخاطف إلى استقرار سياسي، أم سيكون شرارة لمرحلة جديدة من الصراع على شكل وهوية النظام القادم؟
تساؤلات مبررة
لم يكن سقوط نظام بشار الأسد مجرّد حدث عابر في سلسلة أزمات المنطقة، بل نقطة تحوّل محتملة في الجغرافيا السياسية لبلد محوري وملتهب. إنّ التسارع الصاعق للأحداث – من انتزاع حلب إلى دخول دمشق في غضون عشرة أيام- وإن بدا مفاجئًا لرجل الشارع، فقد يكون مبرمجًا، أو على الأقل متوافقًا مع تفاهمات دولية وإقليمية لم تظهر بعد إلى العلن.
ما حدث يطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل سوريا: كيف ستدار المرحلة الانتقالية؟ ما مصير الأقليات؟ كيف ستتوازن مصالح القوى الخارجية؟ أسيتحوّل النصر العسكري الخاطف إلى استقرار سياسي، أم سيكون شرارة لمرحلة جديدة من الصراع على شكل وهوية النظام القادم؟
في الساعات الأولى لسقوط النظام، لا أجوبة يقينية عن هذه الأسئلة، بيدَ أنّ ما يشبه الإجماع الدولي بدأ يتشكل حول ضرورة انتقال سلمي ومنظّم، بينما تنظر عواصم المنطقة والعالم إلى هذا المشهد الحاسم بحذر، آملة بألا يتحوّل انتصار المعارضة إلى فوضى جديدة، وأن تمهّد هذه المرحلة لقيام منظومة حكم أكثر عدلًا وتمثيلًا لكل السوريين بعد عقود من الاستبداد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.