شعار قسم مدونات

ابن السبكي ومذبحة الإسكندرية

ابن السبكي كان قد عمل موقعًا للدُّست في ديوان الإنشاء المعني بعلاقات الدولة الخارجية (مواقع التواصل)

عاش الإمام ابن السبكي في دولة المماليك، وعاصر حكم أبناء الناصر بن قلاوون، وكان من أبرز ما أطلعنا عليه في كتابه "معيد النعم"، من فساد مؤسسة العلاقات الخارجية في زمنهم، غيابُ عيون الدولة وجواسيسها عن رصد ما يخطط له أعداؤها من غزوها أو الإغارة عليها، وذلك العمل من عمل مؤسسة العلاقات الخارجية. قال فيه القلقشندي (821هـ): "وهو جزء عظيم من أسّ الملك وعماد المملكة، وعلى صاحب ديوان الإنشاء مداره، وإليه رجوع تدبيره، واختيار رجاله وتصريفهم".

ابن السبكي كان قد عاصر هجوم القبارصة على الإسكندرية عام (767هـ) وإنزالهم بأهلها مذبحة عظيمة، وذلك زمن السلطان شعبان بن حسين بن قلاوون (ت:778هـ)

وقد أطلعنا ابن السبكي على غياب ذلك الجزء الهام من عمل مؤسسة العلاقات الخارجية في زمنه، عندما خاطب السلطان الذي كان يستولي على أموال الرعية بفرض الضرائب ونحوها، فقال: "وقد كان يمكنه بدل أخذ أموال المسلمين وظلمهم أن يقيم جماعة في البحر، يتلصصون أهل الحرب، فإن كان هذا الملك شجاعًا ناهضًا فليرِنا همته في أعداء اللَّه الكفار، ويجاهدهم ويتلصّصهم، ويُعمل الحيلة في أخذ أموالهم حِلًّا وبِلًّا، ويدع عنه أذيّة المسلمين". وابن السبكي لا يقول هذا الكلام في حق السلطان اعتباطًا، وإنما هو يعي ويقصد ما يقول، ومما يدل على ذلك:

  • أولًا: أن ابن السبكي كان قد عمل موقعًا للدُّست في ديوان الإنشاء المعني بعلاقات الدولة الخارجية، وعرف خلال ذلك ما يجب على السلطان في هذا الجانب، واطّلع على الفساد الذي اعترى تلك المؤسسة في هذا الجانب وفي غيره أيضًا، ولـمَّا رأى ذلك الفساد الذي عمَّ وظائف السلطان، كان من أبرز ما ذكره هذا الفساد في جزء مهم من عمل مؤسسة العلاقات الخارجية، وهو غياب عيونها عن رصد أعدائها.
  • ثانيًا: أن ابن السبكي كان قد عاصر هجوم القبارصة على الإسكندرية عام (767هـ) وإنزالهم بأهلها مذبحة عظيمة، وذلك زمن السلطان شعبان بن حسين بن قلاوون (ت:778هـ). وكانت دولة المماليك قد اهتزت لتلك الحملة هزة عنيفة حيث اعتُقل من المسلمين فيها نحو خمسة آلاف، وزعتهم قبرص على بعض دول أوروبا. وقد قال المقريزي (ت:845هـ) في تلك الحملة: "فكانت هذه الواقعة من أشنع ما مر بالإسكندرية من الحوادث، ومنها اختلّت أحوالها، واتضع أهلها، وقلت أموالهم، وزالت نعمهم". فحمل ذلك المماليك على اعتقال كل النصارى الذين ببلاد الشام ومصر، وأُلزموا بحمل أموالهم لفكاك أسرى المسلمين من أيدي الفرنج.
إعلان

وقد كان من أبرز الأسباب التي مكنت القبارصة من تحقيق النجاح في حملتهم تلك، فسادُ مؤسسة العلاقات الخارجية في دولة المماليك، متمثلًا بغياب عيونها وجواسيسها في بلاد أعدائها بشكل تام، فالمتابع للخطوات التي قام بها ملك قبرص لإعداد هذه الحملة يجد حقيقة ذلك؛ فقد استغرق إعداد تلك الحملة نحوًا من ثلاث سنين، ذهب خلالها ملك قبرص إلى بابا الفاتيكان، وأعلمه بما ينوي القيام به، ثم أخذ يتنقل في بعض دول أوروبا، ويرسل سفراءه لبعضها الآخر يذكي فيهم نار الحقد ضد المسلمين، ويستنفرهم لغزو المماليك، وإعادة روح الحروب الصليبية.

كانت عيون سلاطين المماليك قبل ذلك مبثوثة في بلاد أعدائهم، يعرفون بها كل ما يخططه أعداؤهم ضدهم فيحتاطون له؛ بل لقد أقدم بيبرس على عقد اتفاقية مع ملك صقلية ضَمِنَ بها أن يكون الأخير عينًا له في أوروبا

ولئن كانت تلك الدول نفرت له فأجابته لما يريد قولًا وفعلًا – أو مجرد قول فقط – فإن الذي يلفت الأنظار غيابُ عيون المماليك ورقابتهم عن كل ما كان يخططه ضدهم ملك قبرص، شأنهم في ذلك شأن المسلمين إبان إعداد بابا الفاتيكان للحملة الصليبية الأولى عام (490هـ)، ووصولها إلى بلاد الشام دون أن يشعر بها السلاجقة.

وما كان ذاك من المماليك إلا لشيوع الفساد فيهم وتأثر مؤسستهم الخارجية به، وضعفها عن القيام بواجباتها، وهو الشيء الذي رصده ابن السبكي. ولمَّا كتب كتابه "معيد النعم ومبيد النقم" كان من أول ما انتقده على السلطان غياب عيونه عن قراصنة البحر، الذين أنزلوا بسكان المدن الساحلية الشامية والمصرية مجازر عدة، كان من أفظعها ما كان في حملة الإسكندرية عام (767هـ).

والأمر يكون أفظع وأشد فسادًا إذا علمنا أن دولة البندقية، قد أرسلت إلى المماليك تعلمهم بأنها غير ضالعة في حربٍ قد يشنها ملك قبرص عليهم؛ وذلك منها لتبقي العلاقات التجارية مع المماليك قائمة، ومع ذلك لم ينتبه المماليك لما كان يُحاك ضدَّهم!

وقد كانت عيون سلاطين المماليك قبل ذلك مبثوثة في بلاد أعدائهم، يعرفون بها كل ما يخططه أعداؤهم ضدهم فيحتاطون له؛ بل لقد أقدم بيبرس على عقد اتفاقية مع ملك صقلية ضَمِنَ بها أن يكون الأخير عينًا له في أوروبا، يعلمه بما تخطط له بعض دولها لغزو المماليك.

إعلان

ولمَّا شاع الفساد في سلاطين بني قلاوون الذين عاصرهم ابن السبكي، غاب كثير من ذلك النشاط عنهم؛ ولذا حضَّ ابن السبكي السلطان على إعادة تفعيل ذلك ببث عيونه في البحر، يتلصصون أهل الحرب وغيرهم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان