تواجه دولة جنوب السودان مرحلة حرجة في مساعيها لتحقيق الاستقرار السياسي، بعد سنوات من الحرب الأهلية والصراع على السلطة. وعلى الرغم من توقيع "اتفاق السلام المُنشط" في 2018، والذي أتاح تشكيل حكومة انتقالية وطنية تضم الرئيس سلفا كير ونائبه الأول رياك مشار، فإن البلاد لا تزال بعيدة عن تحقيق الاستقرار الكامل.
مع اقتراب انتهاء الفترة الانتقالية في 2026، يزداد الضغط على الأطراف المعنية لتنفيذ الإصلاحات السياسية والأمنية والاقتصادية اللازمة للوصول إلى الانتخابات دون تمديد جديد. لكن تزايد التأخيرات وعدم التزام الأطراف بتعهداتها يثير الشكوك حول إمكانية تحقيق ذلك.
هل نواجه خطر تمديد آخر؟ وهل ستشهد جنوب السودان انتخابات حقيقية تُنهي دوامة الصراع السياسي؟
الاقتصاد يعاني من حالة ركود حادة، حيث لا تزال مستويات الفقر مرتفعة، وتضخم الأسعار يستنزف جيوب المواطنين
انتقادات للأطراف المعنية: الجميع يتحمل المسؤولية
يتعرض الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار، إلى جانب أعضاء الحكومة الانتقالية، لانتقادات متزايدة بشأن بطء تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها. وعلى الرغم من تشكيل حكومة وحدة وطنية، لا تزال بنود أساسية عديدة في اتفاق السلام غير منفذة بالكامل.. الدستور الدائم لم يُنجز بعد، والقوانين الانتخابية اللازمة لم تُسنّ بعد، والأوضاع الأمنية لا تزال غير مستقرة في عدة مناطق، ما يهدد بإرجاء العملية الانتخابية، أو حتى إفشالها.
بالتوازي، الاقتصاد يعاني من حالة ركود حادة، حيث لا تزال مستويات الفقر مرتفعة، وتضخم الأسعار يستنزف جيوب المواطنين. فشل الحكومة في تقديم حلول ملموسة لتخفيف المعاناة الاقتصادية يُعرقل جهود بناء بيئة مستقرة، يمكن من خلالها تحقيق تحوّل ديمقراطي حقيقي.
تحتاج الفصائل المعارضة إلى الالتزام الجاد بتنفيذ بنود الاتفاق، بما في ذلك وقف إطلاق النار الدائم، والانخراط في عملية سياسية شاملة
المعارضة المسلحة: فشل في الوحدة والمساهمة في الاستقرار
على الجانب الآخر، تتحمل المعارضة المسلحة مسؤولية إضافية في تعطيل تنفيذ البنود الأمنية لاتفاق السلام؛ وعلى الرغم من الاتفاق على دمج القوات المسلحة المعارضة في الجيش الوطني، فإن التنفيذ الفعلي لهذا البند لا يزال ضعيفًا.. العديد من الفصائل المسلحة ترفض التخلي عن أسلحتها، أو الانخراط في عملية السلام، ما يؤدي إلى استمرار العنف في بعض المناطق، ويعطل مسار الإصلاحات.
التحديات الأمنية، إلى جانب انعدام الثقة بين الأطراف، ذلك يجعل تحقيق الاستقرار أكثر صعوبة. تحتاج الفصائل المعارضة إلى الالتزام الجاد بتنفيذ بنود الاتفاق، بما في ذلك وقف إطلاق النار الدائم، والانخراط في عملية سياسية شاملة.
فشل المجتمع الدولي في فرض عقوبات واضحة وفعالة على المعرقلين للعملية الانتقالية، سواء من الجانب الحكومي أو من المعارضة، ما أتاح استمرار حالة الجمود السياسي
المجتمع الدولي: ضعف في المتابعة والدعم
مع بداية عملية السلام، كان المجتمع الدولي شريكًا أساسيًّا في دعم الاتفاق، إلا أن الاهتمام الدولي يبدو قد تراجع في السنوات الأخيرة، تاركًا جنوب السودان لمواجهة تحدياتها بدون الدعم اللازم.
غياب الضغط الدولي الكافي على الأطراف المعنية لتنفيذ الإصلاحات أدى إلى تعطيل العملية الانتقالية. كما أن المجتمع الدولي لم يوفر حتى الآن الدعم الفني والمالي الكافي لتنظيم الانتخابات، أو مساعدة الحكومة في تحسين الأوضاع الأمنية والاقتصادية.
إضافة إلى ذلك، فشل المجتمع الدولي في فرض عقوبات واضحة وفعالة على المعرقلين للعملية الانتقالية، سواء من الجانب الحكومي أو من المعارضة، ما أتاح استمرار حالة الجمود السياسي.
لا يمكن الحديث عن انتخابات حرة في ظل وجود مليشيات مسلحة خارج سيطرة الدولة. على الأطراف المتصارعة الالتزام بتنفيذ البنود الأمنية في اتفاق السلام، ودمج القوات المسلحة في جيش وطني واحد
الحلول الممكنة لضمان الانتقال السلس للانتخابات
لضمان الوصول إلى انتخابات حرة وشفافة بنهاية 2026، دون تمديد آخر للفترة الانتقالية، يجب اتخاذ خطوات عاجلة على عدة محاور:
- وضع جدول زمني ملزم لتنفيذ الإصلاحات الدستورية والقانونية: الإصلاح الدستوري والقانوني هو الركيزة الأساسية لضمان انتخابات نزيهة.. يجب على الحكومة والمعارضة الاتفاق على جدول زمني واضح ومُلزم لإعداد الدستور الدائم وسن القوانين الانتخابية. ينبغي إنجاز هذه العملية بحلول منتصف 2025 على أقصى تقدير؛ لضمان توافر الوقت الكافي للتحضير للانتخابات وإجراء الحملات الانتخابية.
- الإسراع في دمج القوات المسلحة وإنهاء الانقسام الأمني: لا يمكن الحديث عن انتخابات حرة في ظل وجود مليشيات مسلحة خارج سيطرة الدولة. على الأطراف المتصارعة الالتزام بتنفيذ البنود الأمنية في اتفاق السلام، ودمج القوات المسلحة في جيش وطني واحد. يمكن للمجتمع الدولي، من خلال الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي، تقديم المساعدة التقنية والفنية في عمليات الدمج والتدريب؛ لضمان أن تكون هذه القوات قادرة على حماية المواطنين وضمان أمن الانتخابات.
- تعزيز إشراف المجتمع الدولي وضمان دعم دولي فعال: يجب أن يعود المجتمع الدولي بقوة إلى المشهد في جنوب السودان.. ينبغي أن يكون هناك إشراف دولي مباشر على تنفيذ اتفاق السلام، بالإضافة إلى تقديم الدعم اللوجيستي والفني لتنظيم الانتخابات، ويمكن للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي إرسال مراقبين مستقلين للإشراف على العملية الانتخابية، بما يضمن نزاهتها وشفافيتها. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يُفرض على المعرقلين للعملية الانتقالية عقوبات واضحة، بما في ذلك تجميد الأصول ومنع السفر.
- تعزيز المصالحة الوطنية بين الفصائل المتناحرة: إلى جانب الإصلاحات القانونية والأمنية، يجب تحقيق مصالحة وطنية شاملة تشمل جميع مكونات المجتمع، بما في ذلك الفصائل المسلحة وقادة المجتمع المدني.. هذه المصالحة يجب أن تهدف إلى بناء الثقة بين الأطراف المتصارعة، وتهيئة الأجواء لتحقيق التحول الديمقراطي. دعم هذه المصالحة يمكن أن يأتي من خلال تنظيم مؤتمرات وطنية للحوار، يتم فيها إشراك جميع الأطراف.
- التركيز على الإصلاح الاقتصادي وتحسين الأوضاع المعيشية: بدون تحسين الأوضاع الاقتصادية، سيكون من الصعب تحقيق أي استقرار سياسي. يجب على الحكومة الانتقالية، بدعم من المجتمع الدولي، التركيز على إصلاح الاقتصاد وتحسين الخدمات الأساسية للمواطنين، بما في ذلك التعليم والصحة والبنية التحتية. الاستثمار في هذه القطاعات الحيوية سيُساهم في خلق بيئة أكثر استقرارًا تُشجع على التحول الديمقراطي، وتُسهم في تخفيف التوترات الاجتماعية.
يتعين على جميع الأطراف تحمل مسؤولياتها والالتزام بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، كما يجب على المجتمع الدولي العودة بقوة إلى المشهد لدعم هذه العملية
مستقبل جنوب السودان بين يدي قادته
الوصول إلى انتخابات نزيهة وشفافة بحلول نهاية 2026 ليس مجرد مطلب داخلي لشعب جنوب السودان، بل هو ضرورة لتحقيق السلام والاستقرار الدائمين. يجب أن تُدرك القيادة السياسية أن أي تمديد آخر للفترة الانتقالية سيؤدي إلى تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، وسيزيد من معاناة الشعب.
لذا، يتعين على جميع الأطراف تحمل مسؤولياتها والالتزام بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، كما يجب على المجتمع الدولي العودة بقوة إلى المشهد لدعم هذه العملية.
إذا ما تم تنفيذ الإصلاحات اللازمة في الوقت المحدد، فإن جنوب السودان قد تتمكن أخيرًا من طي صفحة الصراعات وبدء مرحلة جديدة من السلام والتنمية. لكن، إذا ما استمر الجمود السياسي، فإن احتمال تمديد الفترة الانتقالية مجددًا سيظل خطرًا قائمًا، ما سيزيد من حالة الإحباط الداخلي والدولي على حد سواء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.