مما لا شك فيه أنَّ أحداث الحرب على غزة قد أيقظت في دواخلنا طوفانًا من المشاعر والأحاسيس، كالغضب وقلة الحيلة، والفخر، والتضامن، وغيرها. ولا شك أيضًا أن الوقوف أمام تجربة إنسانية من هذا النوع، لشعب يقاوم ويصمد على مر عقود في ظل تكالب قوى دولية عظمى، يُعدّ أمرًا ملهمًا ومحفزًا.
ولعل من أبرز ما يبرر التضامن واسع النطاق، الذي حصدته القضية في الفترة الأخيرة، خاصة في العالم الغربي الذي طالما كان الحصن المدافع عن الوجود الإسرائيلي، هو وعي الإنسان الغربي بما مارسته النيوليبرالية من استعباد وتجريدٍ له من القيم الإنسانية، وحصره ضمن حلقة الإنتاج والاستهلاك.
ورغم كل جهود التضليل الإعلامي وتزييف الحقائق، فإن الجيل الجديد استطاع استخدام أسلحة الاستعباد والتجهيل المعاصر، وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعي، لخلق حالة من الوعي المتزايد بالقضية عبر المحتوى الرقْمي.
تحولت القضية الفلسطينية إذن إلى رمز يتجاوز حدود الفكرة، رمزٍ ندافع عنه لكي نثبت لأنفسنا أولًا أننا نستحق أن نكون بشرًا.. التهبت المشاعر وانتفضت الضمائر، لتتلقف الشوارع أصوات المحتجين الغاضبين
تأتي أحداث الحرب على غزة في مرحلة من التاريخ البشري تحوّل فيها الإنسان، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، إلى نمط استهلاكي مفرغ من المعنى، حيث وصل إلى درجة من الانغماس في الفردانية، عزلته عن القضايا الإنسانية الكبرى، ما جعله يُحوّل هذه القضايا نفسها إلى مضمون استهلاكي عبر استجابة عاطفية سريعة. هذه الاستجابة تتبعها مراحل، تبدأ بتراجع الاهتمام، وتصل إلى تبلد المشاعر نتيجة التعود على مشاهد الدمار والقتل.
لكن الجديد اليوم مع القضية الفلسطينية هو أن التاريخ يضعنا وجهًا لوجه أمام نموذج متفرد استطاع أن يصمد، لا أمام احتلال الأرض فحسب، بل أمام احتلال الفكر أيضًا. وكلما تعودنا على شريط الأخبار العاجلة التي تنقل إلينا ارتفاع عدد الضحايا، فاجأتنا القضية بصور صمود متجددة، وبطولات متفردة تستفز وعينا وتستنفره.
تحولت القضية الفلسطينية إذن إلى رمز يتجاوز حدود الفكرة، رمزٍ ندافع عنه لكي نثبت لأنفسنا أولًا أننا نستحق أن نكون بشرًا.. التهبت المشاعر وانتفضت الضمائر، لتتلقف الشوارع أصوات المحتجين الغاضبين، وتضج صفحات التواصل الاجتماعي بوابل من المنشورات والتعليقات الناقمة والسّاخطة على الكيان الإسرائيلي ومن يدعمه، ولو بالصمت المتخاذل. وانتقلنا من القول إلى ما استطعنا إليه سبيلًا، عبر مقاطعة المنتجات الإسرائيلية وغيرها من المنتجات التي تدعم الكيان الإسرائيلي.
الحرب على غزة تعدّ اختبارًا حقيقيًّا للمبادئ والقيم الإنسانية على أرض الواقع، وهي فرصة للانعتاق مما نعانيه من استلاب وفقدان للمعنى، وإن يقظة الوعي تستتبع بالضرورة إعادة النظر في مصيرنا كشعوب
مرت الأسابيع ثم الأشهر، وها نحن نتجاوز عامًا منذ بداية الحرب. فهل يمكننا الجزم بأن الإصرار والحماس تجاه المقاطعة بدأ في التراجع؟ ربما.. لكن الأكيد أنه سيتراجع عاجلًا أو آجلًا، لعدة أسباب، أهمها أن هذا الحماس وليد صحوة عاطفية، والصحوة العاطفية – رغم أهميتها في شحذ الهمم وتوجيه الرأي العام – محكومة بطبيعتها كاستجابة لمثير لحظي، ولا يمكن المراهنة عليها في إحداث تغييرات حقيقية على المديين المتوسط والطويل، إلا إذا اقترنت بصحوة الوعي الناتجة عن فهم أعمق لجوهر القضية، والذي يتجاوز حدود الصراع حول بقعة جغرافية محددة.
الحرب على غزة تعدّ اختبارًا حقيقيًّا للمبادئ والقيم الإنسانية على أرض الواقع، وهي فرصة للانعتاق مما نعانيه من استلاب وفقدان للمعنى، وإن يقظة الوعي تستتبع بالضرورة إعادة النظر في مصيرنا كشعوب، وفي كيفية بلورة الأحاسيس والمشاعر لإحداث تغيير حقيقي. ومن المعلوم أن النهضة الحقيقية لا تتحقق بين عشية وضحاها، بل هي نتاج مسار تنموي طويل تُديره النخب الفكرية والسياسية.. وفي غياب هذه النخب القادرة على قيادة عامة الناس وتوجيه صحوتهم العاطفية نحو الفعل والعمل، سيكون مصير كل ثورة محكومًا بالفشل.
ليبقى السؤال المطروح هو: أين هي نخبنا من كل ما جرى ويجري؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.