في ملحمة "أوديسا: الشهيرة للشاعر الإغريقي هوميروس قصة بعنوان: "أوديسيوس والخنازير".. وفي الحضارة وأوجاعها يذهب ليون فويتشفاغنز إلى أن البحارة، الذين سحرتهم سيرسي وحولتهم إلى خنازير، قد أحبوا وضعهم الجديد ورغبوا به، وقاوموا بشدة محاولة أوديسيوس فك سحرهم وإعادتهم إلى هيئتهم البشرية!
وعندما وجد أعشابًا تخلصهم من هذا السحر، هربوا منه ولكنه في الأخير أوقع واحدًا منهم ودلكه بالأعشاب حتى عاد إنسانًا طبيعيًا كما كان، وبدل أن يشكر أوديسيوس قام بمهاجمته قائلًا: ها أنت عدت أيها الوغد، الدخّال في شؤون الغير.. عدت ثانية لتزعجنا وتنغص علينا، تريد مرة أخرى أن تعرض أجسادنا لأخطار وتضطرنا إلى اتخاذ قرارات جديدة دومًا.. لقد كنتُ في غاية السعادة، كنت أتمرغ في الوحل والتراب، كنت أتشمس في ضوء الشمس، كنت أغلف الطعام غلفًا، وأعب الشراب عبًا، كنت أقبع وأنخر، كنت متحررًا من التأمل والتردد، ماذا أفعل: هذا أم ذاك؟ لمَ أتيت؟! أجئت لتعيدني إلى هذه الحياة الكريهة المقيتة التي كنت أحسوها من قبل؟
أصبح يُعتقد أن القوانين والنظريات الفيزيائية قادرة على تفسير الكون، وأنه من المتوقَّع أن يؤدي تحرير العقل والسيطرة على الطبيعة إلى تحقيق فكرة الكمال المنشود، وإقامة مجتمع صالح وعادل خالٍ من الصراعات
مستشهدًا بهذه القصة يتساءل العالم البولندي باومان: التحرر نعمة أم نقمة؟ أم هو نعمة متخفية في صورة نقمة؟ أم نعمة نخشى أن تكون نقمة؟ وما زالت هذه الأسئلة تشغل بال المفكرين الذين وضعوا التحرر على قائمة أجندة الإصلاح السياسي، والحرية على قائمة القيم التي يدعون إليها، فكثير من الناس فقدوا ثقتهم في إمكانية قيامهم بالتحرر، بل إن قلة قليلة فقط هم من يرغبونها، بل ثمة قلة قليلة على استعداد لتحقيق هذه الرغبة.
بالانتقال الى عصر التنوير، برزت الأسطورة التي تزعم أن هذا العصر يمثل قصة ارتقاء الإنسان من البربرية إلى عالم العقلانية والتطور الأخلاقي؛ وقد اعتُبرت الحداثة مصدر إلهام لتحرير العالم من الغيبيات، وإزاحة الإله من مركز الكون، وتثبيت فكرة "موت الإله"، التي وُعدت الحداثة الصلبة بتحقيقها، وأنه بفضل التقدم العلمي، يمكن للإنسان أن يحل محل الإله، واعتُبر الإنسان المصدر الأساسي للأخلاق والقيم، والدولة المصدر الوحيد لتشريع القوانين.
كما أصبح يُعتقد أن القوانين والنظريات الفيزيائية قادرة على تفسير الكون، وأنه من المتوقَّع أن يؤدي تحرير العقل والسيطرة على الطبيعة إلى تحقيق فكرة الكمال المنشود، وإقامة مجتمع صالح وعادل خالٍ من الصراعات. وكان الرأي السائد في ساحات النقاش وأروقة السجالات الفكرية، أنه مع انهيار الإيمان سيتمكن الإنسان من الوصول إلى نهاية واضحة للطريق الذي نسير فيه.
ولكن تجلى واضحًا أن قصة ارتقاء الإنسان ونهاية التاريخ ويوتوبيا الحداثة لم تتجاوز قاعات التنظير، كما أزيح الستار عن انفصال الفكر عن العمل في النسق المعرفي الحداثي؛ فجون لوك، أبو الليبرالية الذي ظل يدعو إلى الحرية طول حياته، كان من أكبر تجار العبيد في بريطانيا. بل كانت له أسهم في شركة رويال أفريكان التي كانت تصطاد وتأسر العبيد في أفريقيا وتبيعهم! وهكذا كان فولتير.. كانت له أسهم في شركة الهند الشرقية الفرنسية، التي كانت تتاجر في بيع الأفارقة.
وفي الوقت الذي أصبحت فيه المجتمعات وليس الحكومات والدول – أكثر انفتاحًا فكريًا إلى حد ما – تحولت فكرة المجتمع المفتوح إلى تجربة مريرة ومفزعة؛ بسبب الانفتاح السلبي الانتقائي.
هذا الانفتاح أدى إلى عولمة الجريمة والعنف والإرهاب، وتبددت فكرة تحقيق دولة الضمان الاجتماعي وسيادة العدل والحرية. ويربط باومان هذه المآسي والحروب بقوى السوق الدولية، ولا يعفيها من إشعال الحروب، إذ عندما تسعى الرأسمالية خلف الثروة، تصبح الحرب والتهجير أدوات مشروعة، ويُعامل البشر كأنهم نفايات يُلقى بهم في أتون المعاناة، أو يُرمى بهم في براثن الفقر بفعل الأزمات الاقتصادية التي تثيرها الأسواق.
يبدو أنه أعيد إنتاج الجماعة الوظيفية اليهودية على هيئة دولة استيطانية قتالية، تجلت هذه الرؤية في الدمار الواسع الذي يلحق بالأحياء السكنية الآن في غزة، حيث تتحول المنازل والمستشفيات إلى ركام، وتُدمر البنية التحتية بشكل ممنهج، ما يحرم المدنيين من أبسط مقومات الحياة
وفي السياق ذاته توصل إريك فوجيلين (1901-1985) إلى أن كل تحليل من دون توجه أنطولوجي يبقى تحليلًا غير علمي، لأن علم السياسة يتجاوز صحة المقدمات والافتراضات إلى حقيقة الوجود نفسها، فالشرط الأساسي لأي تحليل يبقى كامنًا في إدراك الانفتاح الرحب للروح تجاه أصلها المتعالي في النظام الكوني، وأكد أن ازدهار العلوم الطبيعية المنفصلة عن القيمة سيؤدي إلى الاعتقاد بأن هذه العلوم تمتلك «فضائل كامنة».. وعندما تسود هذه الرؤية، تصير الأنطولوجيا هي كبش الفداء، وبناء عليه لن تعود الأخلاق أو السياسة من طبقة العلوم التي يمكن أن تتحقق فيها الطبيعة الإنسانية.
وفي تلك الفترة كان اليهود خدمًا للنبلاء والأعيان في بولندا، وكانوا يؤدون جميع الوظائف التي تطلبتها الهيمنة الاقتصادية والسياسية لطبقة النبلاء والأعيان، فكانوا جماعات وسيطة ودروعًا واقية لمُلّاك الأراضي.
لم يرَ النبلاء في اليهود سوى جماعات تتسم بالدونية الاجتماعية والطمع والجهل والافتقار إلى التحضر والرقي، فكان لا بد من التعامل معها من بعيد. أما الطبقات الدنيا فنظرت إلى اليهود على أنهم الأعداء المباشرون، والطبقات الحاكمة الفعلية، والمستغلون الذين ليس في قلوبهم شفقة ولا رحمة.
وهكذا كان يهود بولندا هدفًا لعداء طبقي من منظورين متعارضين، وبقي المجتمع ينظر إلى الجماعات اليهودية بوصفها جماعة وظيفية، ارتبطت مكانتها الاجتماعية داخل أوروبا بالتغيرات الاقتصادية والسياسية. وفي مرحلة التصنيع والتحديث في القرن التاسع عشر، ناصرت الطبقة البرجوازية اليهودية الأفكار الليبرالية.
ولكن يبدو أنه أعيد إنتاج الجماعة الوظيفية اليهودية على هيئة دولة استيطانية قتالية، تجلت هذه الرؤية في الدمار الواسع الذي يلحق بالأحياء السكنية الآن في غزة، حيث تتحول المنازل والمستشفيات إلى ركام، وتُدمر البنية التحتية بشكل ممنهج، ما يحرم المدنيين من أبسط مقومات الحياة.
وهذا الدمار نابع من الاعتقاد بأن الإقصاء هو الأساس، حيث يوجد دائمًا ضحايا يتساقطون ويطردون، فيحرص كل فرد على ألا يكون منهم، حتى لو هلك الآخرون جميعًا؛ فليس الدرس أن قنبلة ذرية يمكن أن تُلقى على رؤوسنا، بل إننا نحن من يمكن أن نلقيها على رؤوس أناس آخرين!
انتماء المسيري الثقافي جعله يقرن هذا السلوك بالماضي، ليكشف عن استمرارية تاريخية داخل التاريخ الغربي الحقيقي، واستمرارية ميتافيزيقية داخل التاريخ اليهودي الوهمي
لذلك، وجد المسيري الإبادة نتاجًا للحداثة الغربية، وتعبيرًا مباشرًا عنها، فالحداثة هي التي وجدت في الإبادة حلًا نهائيًا لمشكلاتها المتفاقمة، ومن ثم فهي فكرة متواترة في النماذج الغربية التي تنكر حق الآخرين في الوجود، لهذا السبب تؤكد الخريطة الإدراكية الغربية نهاية التاريخ والجغرافيا على السواء.
ويستخدم المسيري أنموذج الجماعات الوظيفية للإشارة إلى الجماعات اليهودية، ومصطلح الدولة الوظيفية للإشارة إلى إسرائيل، فهي ليست سوى دولة وظيفية تخدم مصالح الإمبريالية في الشرق الأوسط.
كما أن الأنظمة الحاكمة دوليًّا وقُطريًّا تملك ترسانة من المفردات التي تستخدمها لوصف المقاوم، وتلصق به كل النقائص، في مقابل ترسانة موازية من المفردات التي تستخدمها لوصف نفسها بما يضفي عليها صفات الشرف والعقل والدفاع عن الوطن والأمن القومي والإنسانية!. ففقدت الأفكار الكبرى مصداقيتها، وحلت الدولة السجانة محل الدولة الاجتماعية، وتبدلت دولة الرفاه إلى دولة قانون العقوبات.
انتماء المسيري الثقافي جعله يقرن هذا السلوك بالماضي، ليكشف عن استمرارية تاريخية داخل التاريخ الغربي الحقيقي، واستمرارية ميتافيزيقية داخل التاريخ اليهودي الوهمي؛ فالعلاقةُ الثلاثية: (النبلاء البولنديون، الوسطاء اليهود المستوطنون، أقنان أوكرانيا) تشبه كثيرًا العلاقةَ الثلاثية السائدة في الشرق الأوسط: (الإمبريالية الأميركية، الوسطاء الصهيونيين المستوطنين، عرب فلسطين) والعنصر اليهودي في الحالتين استيطاني نافع يتم الحفاظ عليه بمقدار نفعه، ولا أهمية له في حد ذاته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.