نتذكّر معًا الفيلم الذي يحكي سيرة البيانيست البولندي، وكيف أنّه عاش المأساة والحرب العالمية الثانية بقسوتها ومرارتها، لكن ما يلفت الانتباه تلك القدرة الهائلة للبشر على إنتاج نغم موسيقي فائق الإبداع والجمال، وحيث الألم يأخذ تمظهراته الفنية عبر وصلات موسيقية مستوحاة من مآسينا وخيباتنا، تتداعى أنامل البشر مداعبة آلات موسيقية، لتترجم الشفرات الممزوجة بالحب والكراهية، والتضامن والخذلان، والحرية والعبودية.
لكن، ومع تلك الآلات الموسيقية التي يتفنن المبدعون في الحديث لأوتارها وأحجارها العاجية، يأتي البيانو بكونه "عرش الفن الكلاسيكي"، الذي يرمي بظلاله على حكايات المنفيّين والمعذبين في الأرض، بوصلات يدفع بعضها نحو أطوار موغلة في التخيل والتمايز للنفس البشرية، وما يمكن ابتكاره في زمن يتهافت فيه كثيرون على حياة مادية موحشة. ولنقل إنّ الجلوس إلى البيانو كفيل بأن يمنح العازف لموسيقاه لقب البيانيست، حينما تسرد أنامله روعة ما تختزنه النفس البشرية من آمال وآلام.
حين تجلس للبيانو ينتابك شعور بعزف مقطوعة بيتهوفن، تدرك حسها الفني وسطوتها الجمالية، ولربما تسمع لمن تداعب أنامله مقطوعة الموسيقار العالمي شوبان، التي حملت معاني الأسى والقهر والسكينة والخلود
عرش البيانيست
ثمة آلات موسيقية كثيرة تختارنا لا نختارها، كي تراقص أنامل البشر أوتارها، وأخرى تأبى أن تعانق حكايات العشاق كي تسرد عذاباتهم وأشواقهم. ولكن البيانو يكاد يكون الآلة المتفردة بهيبتها وقوة مرونتها، وعلى قدر أسطورة صناعة أحجاره من عاج الطبيعة النادر، يرفض البيانو أن يترك العازف عاجزًا عن التخلي عن رغباته الجامحة، وهزائمه أمام سطوة الحياة وتقلباتها.
وأنت حين تلامس أناملك أحجار البيانو، فإنها للوهلة الأولى تأخذك بعيدًا، حيث هذا الكائن الموسيقي الذي استطاع أن ينهل من الطبيعة جمالية وابتكارًا فنيًا فريدًا من نوعه، ليس في تعاقب النوتات ولا انسجامها، بل في السكينة والهدوء اللذين يأسران وجداننا، وحيث تُبعث النوتات من أسطرها على أوتار البيانو، تعزف أنامل الذهب أجمل ما استوحاه البشر من الطبيعة.
حين تجلس للبيانو ينتابك شعور بعزف مقطوعة بيتهوفن، تدرك حسها الفني وسطوتها الجمالية، ولربما تسمع لمن تداعب أنامله مقطوعة الموسيقار العالمي شوبان، التي حملت معاني الأسى والقهر والسكينة والخلود.. وأنت إذ تفعل ذلك رغبة منك في تخطي حاجز قراءة النوتات الصمّاء، وتسلسلها على سُلمي صول وفا المتراقصين بشكل لافت للعقل، وهو يستعيد ذكرياته وصورها على مقامين متضادين، هنالك تعجز الألسن عن استثارة الكلمات مكتفية بلغة الطبيعة، وبسحر الإيقاع تهيمن المقطوعة الموسيقية على كيان العازف مانحة المستعبدين، طوعًا، خلاصًا استثنائيًا.
ستقع عيناك على مفاتيح البيانو بلونيها الأبيض والأسود، ولكل منهما مقام يعزف وألوان موسيقية تسرد، وما بين المفتاحين صول وفا، يجلس العازف مستقبلًا متوسطًا البيانو، شاغلًا ذهنه ويديه وحواسه كلها بتلك الأحجية التي يترجمها بنغمات عذبة، حيث تولد الأحاسيس حرّة غير مكبلة بالكلمات ولا معانيها الضيقة، ومع كون البيانو آلة معقدة في تركيبتها وتعدد تدفقات أوتارها، فإنّ ملامسة أحجارها والانسجام مع نوتاتها، تمنح لاغترابنا صورة مهيبة عن قدرتنا على التجاوز.
وما البيانيست في عرشه إلا رسول أحزاننا وأفراحنا التي امتُحنا فيها، فما استطعنا لها سبيلًا ولا خلاصًا، إلا ونحن نستمع لمقطوعة جبران ألكوسير، أو سمفونية الموت وهي تعيد سردية الهولوكوست في الواجهة مع جنون آلة القتل الصهيونية، بينما الموت يأخذ شكله الأكثر سوداوية في أقصى الأرض، حيث ابن الشيطان قد تماهت نيران طائراته الصاخبة مع صرخات الأطفال والنساء وهم يبادون في صمت.
حين تشاهد فيلم البيانيست سيغزوك شعور شديد بالتضامن الكامل مع المأساة الإنسانية التي واجهها اليهود في أوروبا، لا لشيء إلا لكون الموت صنع لنفسه سمفونية تتراقص على وقعها جثث الملايين ممن هم في الأصل أوروبيون
تُرجمان الروح
هي النفس البشرية بتناقضاتها وانسجامها، بعذاباتها وطموحاتها، فإنّها تفر إلى حيث السكينة تتخذ لها عرش المحبة والانقياد، وعنوانًا لذاكرتها المستلبة، وهويتها المتشظية، ومثلما هي صعوبات الحياة والبحث عن الحرية والكرامة، فإنّ أنامل الذهب ترافق بكل حيوية انتقالاتها ضمن إيقاع نغمي بين أحجار البيانو، من خلال التدريبات المتكررة، وبواسطة هوسها وانقيادها التام للنوتات المعلقة على السلم الموسيقي.
حتى الفراغات في مدرجي صول وفا كان لهما الجمالية الفنية، وهما يسردان كيف أنّ "درس البيانو" يحيي الماضي بمآسيه، وآماله في الانعتاق من عبودية رغباتنا المادية، والانصراف نحو الإنصات للغة الطبيعة وهي تخاطبنا من داخل ذواتنا، وهي تفك أهم شفرات المدرج الموسيقي لأعظم النوتات، وأرقاها إيقاعًا واستماعًا.
من "رقصة الفالس" لفريدريك شوبان، وصولًا إلى "الفكرة 10" لجبران ألكوسير، الذي أحدثت موسيقاه الترند العالمي بوصفها حديث النفس العابر للكلمات، تنطوي حكايات الحزن الصامتة للمعذبين في الأرض بين أحجار البيانو، ممزوجة بالفقد والحيرة والقهر والخذلان، وتعبيرًا عن الرفض المطلق لما يسود النفس البشرية من استعباد موحش للحضارة، وهي ترمي بثقلها المادي على التنوع الإنساني، حتى إن الطبيعة ذاتها لم تسلم من جور الرغبات البشرية المتجددة، وهي تنفخ في الحروب إمعانًا في القتل والتهجير.
حين تشاهد فيلم البيانيست سيغزوك شعور شديد بالتضامن الكامل مع المأساة الإنسانية التي واجهها اليهود في أوروبا، لا لشيء إلا لكون الموت صنع لنفسه سمفونية تتراقص على وقعها جثث الملايين ممن هم في الأصل أوروبيون، بغض النظر عن طبيعة ديانتهم، إلا أنّ الفيلم ترجم بحرَفية سردية الهولوكوست، وكونها أكبر الخطايا التاريخية للأوروبيين ضد شعب اليهود، وقد انساق المخرج البولندي "رومان بولانسكي" إلى موسيقى شوبان لوقعها الجمالي والتقائها مع مكون تاريخي ممتد للجذور الهوياتية البولندية.
ولكن، لم يستطع الفيلم التخلص من نزعة التوظيف الممنهج للخلاص اليهودي، وما لحقها من تبعات في الشرق الأوسط، ومع أنّ البيانيست وقع على آخر قطعة موسيقية للضابط النازي بعدما طلبها منه، ليهديه الأخير معطفه تجسيدًا تضامنيًا لأعتى قوى الشر حينها، فإنّ سردية الهولوكوست لم تتوقف عن تحميل العالم تبعات الخطيئة الكبرى لأوروبا تجاه قوميات يهودية، عاشت فيها قرونًا عدة، بل انزاحت لتراكم وحشيتها وافتقادها لإنسانيتها، بهيمنة الصهيونية حتى على الخطاب الجمالي التعبيري للحضارة.
وبالعودة إلى تربع البيانو على زاوية الأوركسترا وحيدًا متفردًا بنغماته الاستثنائية، ليرسم تعابير ذاكرة المعذبين في الأرض على وجوه الذين ارتهنتهم الحضارة في عناوين كبرى، وليستذكروا مع البيانيست قوة أنامل الذهب وهي تغازل أحجار الطبيعة البيضاء في نقائها وصفائها، عبر وصلات إبداعية في منتهى الجمال والاحترافية، وعلى سُلم "صول" حيث تعلق أسماء المنفيّين من تاريخ الإمبراطورية، ومدرج "فا" الذي يصدح بقوة ضد هيمنة الحضارة المادية.. يفتقد العالم إلى العازف الذي يسرد قصة الآلاف ممن هجرتهم آلة الحرب، معيدة صورة الفارين من غيابات النازية في أبشع صورها الانتقائية والانتقامية اليوم.
وكذلك الحزن وهو يتقاطر من أنامل تيممت الذهب إيذانًا منها لخلاصنا، لتترجم أسمى عبارات العتق الأبدي في ماكينة من صنع البشر، حيث يجلس البيانيست وحيدًا مستعبدًا أرواحنا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.