شعار قسم مدونات

اللغة العربية بين كيدين: الهوية والثقافة

اللغة العربية
اللغة العربية مفتاح العلوم الإنسانية ولغة التراث الذي نطل منه على كتاب الله والسنة النبوية (شترستوك)

كتب الدكتور مختار الغوث سلسلة الحرب الباردة على الكينونة العربية وقسم السلسلة إلى ثمانية أجزاء كل واحد منها وراءه طرح ثقيل ثقل المهمة التي انبرى لها أستاذ مناهج البحث الأدبي واللغة.

وقد بدأت السلسلة بكتاب (اللغة هوية) وعرجت على (اللغة والإبداع والتعليم) ثم جزء معنون بـ (التجني على الهوية) وبعده (كيد الهوية)، ومن الحديث عمَّا كيد للهوية العربية عبر التاريخ، ينتقل الدكتور مختار الغوث إلى جزء بعنوان (الهوية بعد الحادي عشر من سبتمبر) ثم (مسخ الهوية) و(الصراع اللغوي)، ويختم سلسلة الحرب الباردة على الكينونة العربية بكتاب (السياسة اللغوية).

والسؤال الذي يطرحه المقال هو سؤال الهوية اللغوية والهوية الثقافية للشعوب الناطقة باللغة العربية كلغة أم وحاضنة للفكر والوعي، وأداة للتفكير والمحاكمات العقلية والفلسفية، ووسيلة للانفتاح على الآخر الذي نتشارك معه العيش والوجود على هذه البسيطة.

هل تدرس العربية اليوم بطريقة تجعلها محببة وقريبة إلى عقل وقلب المتعلم؟ أم أنها تُختزل في مجموعة من القواعد النحوية الثقيلة التي تجعل التلميذ ينفر منها ويستعْسر تعلمها؟

اللغة العربية مفتاح العلوم الإنسانية ولغة التراث الذي نطل منه على كتاب الله والسنة النبوية وبها نتداول أشعار العرب وحكاياتهم وأسمارهم ومن خلالها نتعرف إلى تاريخ كبير من كتب الأدب والشعر والنثر وما خطه العرب من ملح ونوادر وطرف وأخبار الأمم.

ومع هذا وذاك إلا أنها صارت اليوم أبغض لغة إلى الجيل الجديد بل أصعبها وأكثرها عقدًا وتعقيدًا، فزهد الكثيرون في تعلمها على الوجه الذي يجعل منها هوية فكرية وحضارية ووجودًا، بل استخدمها البعض مادة للسخرية أو للتباهي بتعمد خلطها بألفاظ من لغات أخرى ليكتسب رداء الحضارة الذي أصبح مرتبطًا في وعي كثير من أبناء هذا الجيل بلغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية.

إعلان

وصار حال النشء مع لغتهم الأم حالًا مبكيًا ومترديًا، فبعد اثني عشر عامًا من تلقي دروس اللغة العربية في المدارس يتخرج عدد كبير من المتعلمين والمتعلمات وهم لا يتقنون كتابة جملة متينة بدون أخطاء لغوية أو إملائية أو نحوية.

ومع أن الفرق بين اللهجات العامية واللغة العربية الفصيحة يسير إلا أن هناك استصعابًا للثانية واستبدالًا لها بالأولى في بعض المجتمعات، بل ربما دُرّست اللغة العربية بالعامية في حصص المدارس وهنا الطامة والغمة.

والسؤال الذي أشاركه مع القارئ الكريم بشفافية تامة: هل تدرس العربية اليوم بطريقة تجعلها محببة وقريبة إلى عقل وقلب المتعلم؟ أم أنها تُختزل في مجموعة من القواعد النحوية الثقيلة التي تجعل التلميذ ينفر منها ويستعسر تعلمها؟ وهنا لا أعيب القاعدة النحوية على الإطلاق، فالقاعدة وجدت لتضبط مكونات الكلام وعلاقاته ببعضه في الجملة لتنتج قولًا سليمًا واضحًا على النسق الذي ترتضيه العربية.

ما علاقة اللغة العربية بالهوية؟ وهل حقًا تُكاد اللغة العربية كما زعم الدكتور مختار الغوث في كتابه (كيد الهوية)؟

ولكن هل تعليم النحو بالطريقة الدارجة الآن يعلم اللغة؟ أو يمكن التلميذ من الإمساك بتلابيبها والاقتدار عليها؟ هل يوجد رابط المحبة الناتج عن شعور القدرة والاستطاعة؟ المرء غالبًا يحيد قلبه عن الصعب الذي يُشعره بعجزه، وهذا حال كثير من الجيل الجديد مع تعلم اللغة العربية، فاللغة لم تقدم لهم في بيئة تعليمية مهيأة لممارسة اللغة واستخدامها بل ظل التركيز منصبًا على استظهار قواعدها وتنكب صرفها ونحوها وعدم الالتفات إلى عناصر الجمال والبدعة والتفنن التي تحببها إلى النفوس.

ويضرب الدكتور مختار الغوث مثالًا لذلك تعلم الأتراك والفرس للغة العربية. فيقول إن الترك لا يتعلمون قواعد اللغة إلا بالمتون فكانت النتيجة أننا لا نكاد نعرف في التاريخ الإسلامي شاعرًا تركيًا مميزًا، أما الفرس فقد تعلموا العربية بطريقة سلسة وأخذوها من بيئتها واختلطوا بأهلها واكتسبوها كما كان أهلها يفعلون، فنبغ منهم بشار بن برد والديلمي وغيرهما.

إعلان

ومن الكوارث التي جرها الجهل باللغة العربية في العصر الحديث قلة القراءة وصعوبة التعلم بين جيل من الناشئة الذين تتلمذ كثير منهم في المدارس الأجنبية بهدف اكتساب اللغة الإنجليزية التي أصبحت الآن – لأسباب تتعلق بالغلبة والاستعمار الذي فرض لغته- أصبحت لغة العلوم، بل تم تقسيم العلوم التي يتلقاها الطالب العربي في جامعة عربية إلى قسمين: فجُعلت اللغة الإنجليزية للعلوم التي لها حظوظ مادية واجتماعية كالطب وعلومه أما العربية فجعلوها مقتصرة على الجغرافيا والتاريخ وما شابهها.

ومما يتندر به في بعض المجتمعات العربية أن معلم اللغة العربية غالبًا ما يكون ممن لفظته باقي التخصصات فلم يجد إلا هذا التخصص الذي أريد له أن يكون هزيلًا ليقبل به. فكيف لهذا المعلم الذي درس اللغة كارهًا أن يحببها إلى تلاميذه وكيف يثير فيهم الحماس لتذوق ما فيها من جمال وهو لا يمتلك أدنى إحساس بها ولا تلامس مفرداتها من نفسه أكثر ما يمكّنه من إشغال وقت الدرس.

حق لنا أن نتساءل بعد هذه التوطئة الطويلة: ما علاقة اللغة العربية بالهوية؟ وهل حقًا تُكاد اللغة العربية كما زعم الدكتور مختار الغوث في كتابه (كيد الهوية)؟

الهوية عند اللغويين هي حقيقة الإنسان المطلقة وصفاته الجوهرية، وعند كثير من الفلاسفة تعني الوجود ومطابقة الشيء نفسه وخصوصيته، وبعبارة بسيطة الهوية هي حقيقة الشيء الذي يتميز به عن غيره.

وهذا المعنى يفسر ما كان يقوم به المستعمرون على امتداد التاريخ في أي أرض يدخلونها، حيث يوجهون جهودهم الأولى إلى طمس المعالم البارزة للشعب المستَعمَر، ولا يخفى على عاقل أن اللغة هي الحضن الجامع لجميع مكونات الشعوب، لذلك خاض نابليون حروبًا موازية لطمس هوية البلدان التي غزاها ومنها روسيا، التي تفرنس المجتمع المخملي فيها إلا قليلًا، وهذا ما فعله الاستعمار الفرنسي في الجزائر.

من تعلم الإنجليزية مثلًا في صغره قبل أن يتعلم العربية، سيُرجع كل شيء إلى اللغة التي تمكن منها وتمكنت منه والعكس صحيح، وهذا ما يفسر لنا ضعف كثير من خريجي المدارس الأجنبية في اللغة العربية ممارسة وفهمًا

وعليه فإن الهوية العربية هي الصفات المعنوية التي يتمايزون بها عن غيرهم من الأمم والشعوب، وتشمل هذه الصفات الثقافة والسمات الروحية والفكرية والعاطفية وطرائق الحياة ومنظومة القيم والمعتقدات والرموز والنظرة إلى الكون ومفردات الوجود من موت وحياة وعلاقة الإنسان بما يحيط به. وأوجزها (إليوت) في أنها طريقة شعب في الحياة واللغة.

إعلان

اللغة لسان الثقافة وحاضنتها والوعاء الذي يجمعها بين دفاته ودلالتها تتسع عما تنطقه الألسنة من كلام تم الاصطلاح عليه وقبوله، وتزيد عن القواعد النحوية في المتون وهي أكثر من مفردات المعجم وأعظم من اشتقاقات الصرف وفنون الأخيلة البلاغية.

اللغة كائن وظيفي حي يتسع لكل ما سبق ويمنح أهله صبغة مائزة تبينهم عن غيرهم وتجعلهم يندرجون تحت عباءة واحدة من اللسان والفكر والخيال، اللغة طريقة يبين بها العقل عن نفسه ويمد يده مناجيًا ومسلمًا على غيره من العقول، وهي بهذا الوصف هوية جامعة لأهلها يتصفون بها ويسمون على اسمها.

وإذا كسر هذا الوعاء أو شابه ثلم هنا وشق هناك، وإذا حورب ذلك الكائن والكيان الحي ومنع عنه النَفس لم يكن بعد ذلك إلا الاختناق والتقوقع والأفول، والظهور بمظهر هزيل معتل فتصبح اللغة معتلة بعد أن كانت حروف العلة الثلاث من أعظم أسرار العربية وقوتها.

يقول الدكتور مختار الغوث في كتابه (اللغة هوية) أن بين اللغة والثقافة صلات متينة يعرف كنهها من يجمعون بين لغتين وثقافتين أكثر من غيرهم، فهم يعبرون عن بعض الأفكار تعبيرًا جيدًا باستخدام لغة ويعجزون في اللغة الثانية، والغلبة للغة التي تشربها عقله ووعاها الوجدان أولًا وهذا يحيلنا إلى مقولة الجاحظ المشهورة: "إذا التقت اللغتان في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على الأخرى"

فمن تعلم الإنجليزية مثلًا في صغره قبل أن يتعلم العربية، سيُرجع كل شيء إلى اللغة التي تمكن منها وتمكنت منه والعكس صحيح، وهذا ما يفسر لنا ضعف كثير من خريجي المدارس الأجنبية في اللغة العربية ممارسة وفهمًا، وهذا ما يجعلهم ينشؤون على فكرة صعوبة العربية وعسرتها على الفهم فينصرفون عنها حديثًا وفكرًا وأدبًا.

فهل بقيت العربية عند هؤلاء هوية تميزهم؟ وإذا خرجوا إلى العالم، بأي صيغة ثقافية وفكرية سيخرجون؟ وكيف سيصدرون أنفسهم إلى الآخر وأي وجه ثقافي وحضاري سيرتدون؟ هل تمكنهم اللغات التي اكتسبوها دون العربية من اكتساب هوية أهل تلك اللغات؟ وهل من يتعلم الإنجليزية حبًا وإعجابًا وازورارًا عن لغته الأم هل فعلًا هو متمكن من تلك اللغة بذات القدر كما هم أبناؤها وأصحابها الأصليون؟ أم أنه وهم يعيشه أولئك حيث إن كل لغة مكيفة مع متكلميها ثقافة وواقعًا ومعتقدات، وإنما يلم المرء المتعلم للغة غيره بقشور تعتمد على حفظ سياقات لغوية في مقامات ومواقف معينة بعيدًا عن روح اللغة الحقيقية التي لا يتمكن من تلمسها إلا أبناء ولدوا من رحمها.

حاشا أن نورد لغتنا التهلكة بأيدينا، ونبرأ إلى الله من كل دعوة براقة تضمر الكيد للغة العربية والهوية العربية وتسير بالثقافة مسار التردّي والهاوية

إن الحديث عن العربية وما تتعرض له في واقعنا المعاصر من جحود وازورار عن تعلمها وتقديمها في المحافل الأدبية والثقافية لا يعني أبدًا أننا نقلل من أهمية تعلم اللغات الأخرى والانفتاح عليها، وليس هذا مقصد المقال ولا غايته، فنحن الآن في شديد الحاجة إلى معرفة لغات الأمم والشعوب المحيطة بنا في هذا العالم في ظل العولمة المتزايدة والأفكار المتصارعة والتكنولوجيا التي تغزو حياتنا.

إعلان

ولكن من المسيء جدا أن يكون الانفتاح سلمًا يدوس على كينونتنا وهويتنا العربية، وأن نختار إقصاء العربية في كل مرة تمتحننا بها عولمة الأفكار والقيم وأن يسهل علينا الاستهانة بالمكون اللغوي العربي لوجودنا كأمة عربية وإسلامية. وكما قال الشاعر:

من يهن يسهل الهوان عليه .. ما لجرح بميت إيلام

وحاشا أن نورد لغتنا التهلكة بأيدينا، ونبرأ إلى الله من كل دعوة براقة تضمر الكيد للغة العربية والهوية العربية وتسير بالثقافة مسار التردي والهاوية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان