لست متأكدة من الذي يتحدث الآن؛ أهي هرموناتي أم غضبي؟ ها أنا هنا، في المقهى بعد يوم عمل طويل، مشاعر مختلطة تجتاحني، ربما هي نوبة جنون أو هستيريا، أو مجرد رد فعل لا أستطيع تفسيره بوضوح.
استحممت وارتديت ملابسي، وقفت أمام المرآة أتأمل نفسي للحظات طويلة، وكأنني أبحث بين ملامحي عن إجابات. قررت الخروج دون وجهة محددة، وكأنني أتخيل كل شيء طبيعيًّا، لا حرب، لا فوضى، فقط حياة عادية.
أفكر في الذين خسروا بيوتهم، كيف يشعرون الآن؟ ماذا يدور في خلدهم وهم يقفون بين الأنقاض؟ كيف يستوعبون أن ملاذهم الآمن قد تحول إلى ركام؟
لكن الواقع هو أن ما انتابني كان مزيجًا من الملل الذي يتسرب إلى تفاصيل حياتنا، والتعب الذي استوطن أجسادنا مع كل أزمة تمر بنا. ربما كان تراكم خمس سنوات من الإرهاق، من متابعة الأحداث اليومية، القصف الذي يدوي في مسامعي، والمشاهد المؤلمة التي طُبعت في ذاكرتي، والحوارات الثقيلة مع أولئك الذين عاشوا وسط النار.. كل هذا جعلني أشعر بأنني أريد الهروب، لكن دون أن أتحرك.
ورغم محاولاتي للهروب، حملت اللابتوب معي. أعلم أنني لا أستطيع التوقف، ليس فقط لأنني أحب توثيق الحقائق، ولكن لأن الخوف من أن يفوتني حدث ما يسيطر عليّ.. وكأنني إذا توقفت للحظة، ستُفلت مني السيطرة على المشهد بأكمله. وهكذا، بعد انتهائي من كتابة مقال آخر أفرغ فيه بعضًا من هذا الثقل، وجدت نفسي أكتب هذه السطور.
أتأمل وجوه الناس من حولي؛ الأطفال يركضون، والضحكات تملأ الأرجاء. أتساءل: أهؤلاء الأطفال ظُلموا بولادتهم في هذا الزمن، أم إنهم ما زالوا يعيشون في براءة لا تدرك ما يحدث حولهم؟ أحاول إقناع نفسي بأن هناك أملًا، لكني في أعماقي أعرف أن لا شيء سيتغير. ما نعيشه اليوم هو تكرار لما عاشه أجدادنا وآباؤنا؛ دائرة لا تنتهي من الألم والمعاناة.
أفكر في الذين خسروا بيوتهم، كيف يشعرون الآن؟ ماذا يدور في خلدهم وهم يقفون بين الأنقاض؟ كيف يستوعبون أن ملاذهم الآمن قد تحول إلى ركام؟ الفقد هنا ليس مجرد فقدان للماديات؛ إنه فقد للأمان، للذكريات، وللانتماء.. كل شيء يبدو غريبًا، حياتهم لم تعد ملكهم.
بدون أي تحذير، وجدت عائلات عديدة نفسها بلا مدخرات، بلا أمل في استعادة ما فقدته.. تلك المدخرات التي كانت مخصصة لبناء المستقبل، أو لتعليم الأبناء، أو حتى لضمان حياة كريمة في بلد يعاني من الأزمات
أشعر بالذنب.. كيف أستطيع أن أكون هنا، في مقهى، بينما هناك من فقد كل شيء؟ هذا الذنب يثقلني، وكأنني خائنة لأنني أمتلك سقفًا فوق رأسي، ولدي القدرة على العودة إلى منزلي.
في لبنان، نحن أبطال فيلمٍ مأساوي طويل، نعيشُ حلقاته دون نصٍ مكتوب، بلا مُخرِجٍ يُنظِّم مشاهدَنا، بلا حوارٍ مُعَدّ. نصحو كل صباح ونحن ننتظر سيناريو مختلفًا، لعلّ المشهد التالي يحمل بارقة أمل، لكنّنا نجد أنفسنا محاصرين بمشهد مؤلم من جديد.
هذه الحرب التي نعيشها اليوم من المفترض أن تكون الحلقة الأخيرة من الفيلم الذي نمثله، أو على الأقل جزءًا من سلسلة أزمات لا تنتهي في لبنان.. حلقات متتابعة من الخسارة والانهيار. قبلها كانت بداية الانهيار المالي، حين بدأت أموالنا تختفي من المصارف، وكأنها سحبت إلى هوة عميقة لا قاع لها!.
الأموال التي كانت تمثل عماد حياة كثيرين، حلم الأهل والأجداد، الذين عملوا بعرق جبينهم لتأمين مستقبل أبنائهم، تحولت فجأة إلى مجرد أرقام على ورق. وبدون أي تحذير، وجدت عائلات عديدة نفسها بلا مدخرات، بلا أمل في استعادة ما فقدته.. تلك المدخرات التي كانت مخصصة لبناء المستقبل، أو لتعليم الأبناء، أو حتى لضمان حياة كريمة في بلد يعاني من الأزمات.
ثم جاء الرابع من أغسطس/ آب.. يوم لن يُنسى أبدًا، يوم انفجرت بيروت بأكملها في لحظة واحدة، انفجار هزّ المدينة وهزّ قلوبنا معها، وحوّل الشوارع التي عرفناها إلى ساحات للدمار. لم يكن هذا مشهدًا من فيلم خيال علمي، بل كان كابوسًا حيًا وواقعيًا.. البيوت التي كانت ملاذًا آمنًا أصبحت أنقاضًا، الأرواح التي سكنت فيها رحلت، والأمل الذي حاولنا التمسك به تلاشى مع الدخان والغبار.
لعلّ الفيلم الذي نعيشه هو الأطول، لكنّ قصصنا – رغم مرارتها – مليئة بالعزيمة.. ونحن نحاول البقاء على قيد الحياة وسط موجات متتابعة من الألم والفقدان
لا نعرف أين ينتهي الفيلم، ولا متى يظهر المشهد الأخير. نُمثِّل دون علمٍ بما سيأتي، وأحيانًا نشعر أن الكاميرات تتجاهلنا، أو أن المخرج غاب عن الساحة وتركنا نصارع أدوارنا وحدنا. الأبواب التي تُغلق في وجوهنا، الضجيج الذي يخترق آذاننا، الوجوه المتعبة التي نقابلها.. كلّها تفاصيل كُتب علينا أن نؤدّيها يوميًا، في هذا السيناريو الفوضويّ.
في لحظات أخرى، نشعر أننا مجرّد كومبارس في هذا الفيلم، بلا بطل، نعيش بين الدمار والانهيار، بين الأمل المكسور والتوقعات الخائبة. تمرّ مشاهد الاحتجاج، الانفجار، الرحيل، الوداع.. نتأمل أحيانًا في وجوه المارّة، لنسأل: أنعيش ونشاهد الفيلم ذاته، أم إن لكل واحدٍ منا شريطه الخاص، الذي يعيد اللقطات ذاتها مرارًا وتكرارًا؟
لكنّنا رغم ذلك نملك شيئًا لا يمكن لأحدٍ أن يسلبه منّا: قدرتنا على الحلم!. فحتى ونحن نمثّل وسط الرماد، بين الأطلال والدموع، هناك دائمًا لحظة – ولو كانت قصيرة – تهمس في آذاننا: "استمرّوا".
لعلّ الفيلم الذي نعيشه هو الأطول، لكنّ قصصنا – رغم مرارتها – مليئة بالعزيمة.. ونحن نحاول البقاء على قيد الحياة وسط موجات متتابعة من الألم والفقدان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.