كان للاستعمار أثر بالغ على مختلف جوانب الحياة في أفريقيا منذ عقود خلت، لطالما كانت تحت التصورات السلبية لوسائل الإعلام القادمة من الشمال العالمي، ونظرته الاستعمارية تجاه الأفارقة.
هذه الصورة النمطية التي غلب عليها الفقر والحروب والأمراض ساعدت في توطيد التنميط العنصري وألحقت الضرر بالقارة ومجتمعاتها.
رغم تأرجح موازين وسائل الإعلام الغربية في طبيعة السرد الأفريقي بين "الكل" و"درءًا للتعميم" في ظاهر التغطية الإعلامية، فإنه في جوهر هذه السردية الإخبارية تكمن تغطية منحازة للشمال العالمي، غير آبهة بما آلت إليه الأوضاع في المنطقة من تشظّي الإنسان وتفتت الهوية والكينونة، وقد ساعد ذلك في ترسيخ مفاهيم خاطئة عن شعوب القارة في محاولة لتأطير الرأي العام العالمي، ووضعه في غياهب التضليل والافتراءات.
بعد الاستقلال، شهدت كينيا ازدهارًا في وسائل الإعلام المحلية، لكنها جاءت بمجموعة من التحديات الخاصة بها، حيث سعت الحكومات التي تم تشكيلها مؤخرًا للسيطرة على الصحافة في بعض الأحيان
مثّل ذلك تحديًا كبيرًا للهوية الأفريقية، وهو ما أثر سلبًا على نظر العالم للقارة الزاخرة بالتنوع الثقافي والاجتماعي. ولمواجهة هذه التحديات برزت الصحافة الأفريقية كصوت جديد يسعى لتفنيد تلك الادعاءات، وتقديم سرد أكثر واقعية وتنوعًا عن أفريقيا وتاريخها.
يقول الصحفي في كينيا بلس، فسوتس تشوما، للجزيرة نت: "أعتقد أن الصحافة الأفريقية تلعب دورًا حاسمًا في إعادة تشكيل السرد الذي هيمن عليه الإعلام الغربي تاريخيًا، إن الصورة النمطية لأفريقيا – باعتبارها مجرد قارة تعاني من الأمراض والحروب والفقر – هي وجهة نظر ضيقة، وعفا عليها الزمن.
يقوم الصحفيون ووسائل الإعلام الأفريقية بشكل فاعل بسرد قصص أكثر توازنًا ودقة، تعكس تنوع القارة وإمكاناتها، وحالة النمو الذي تشهده".
يعتقد فسوتس أن "الهوية الأفريقية لا تشكل عقبةً أمام الصحافة، ولكن الكيفية التي يُنظر بها إلى هذه الهوية – داخليًا وخارجيًا – قد تعقّد عمل الصحفيين.
ومع ذلك، غالبًا ما يتعين على الصحفيين الأفارقة أن يتنقلوا بين توقعات أو تحيزات معينة، سواء أكانت من قبل المتابعين الدوليين الذين يتوقع منهم القيام بتغطية تتناسب مع الصورة النمطية القائمة مسبقًا، أو من قبل السلطات المحلية التي قد تنظر إلى الصحافة الحرة باعتبارها تحديًا للوضع الراهن في البلاد.
إن فكرة الهوية الأفريقية ينبغي أن تعمل على تمكين الصحافة، ومنحنا القدرة على سرد القصص بطرق تتوافق مع شعوبنا المتنوعة، لكن التحديات تنشأ حول كيفية تلقي هذه القصص، أو تقييدها من قبل القوى السياسية أو الاقتصادية".
يسرد تشوما للجزيرة نت: "يرتبط تاريخ الصحافة في كينيا ارتباطًا وثيقًا بماضيها الاستعماري. خلال الفترة الاستعمارية، كانت الصحافة في الغالب أداة للدعاية الاستعمارية، حيث دفعت بروايات تدعم الإدارة الاستعمارية مع التقليل من مخاوف السكان المحليين.
تمظهر الأحداث السلبية والأزمات عن أفريقيا في المشهد الإعلامي الغربي لم يعد حدثًا جديدًا في ظل تغطيتها المنحازة للشمال؛ غضت الطرف بذلك عن الإنجازات والتطورات الإيجابية التي تشهدها بعض دول المنطقة، وساعدت في تعميم هذه الصورة السيئة عن القارة بأكملها، دون الاعتراف بالتنوع الكبير بين الدول الأفريقية
بعد الاستقلال، شهدت كينيا ازدهارًا في وسائل الإعلام المحلية، لكنها جاءت بمجموعة من التحديات الخاصة بها، حيث سعت الحكومات التي تم تشكيلها مؤخرًا للسيطرة على الصحافة في بعض الأحيان.
إن التحدي الرئيسي الذي يواجه الصحافة هو الوتيرة المتسارعة للتحول الرقمي، والتي تجبر الصحافة على التكيف باستمرار مع منصات جديدة ومستهلكين وسلوكيات متغيرة".
إن تمظهر الأحداث السلبية والأزمات عن أفريقيا في المشهد الإعلامي الغربي لم يعد حدثًا جديدًا في ظل تغطيتها المنحازة للشمال؛ غضت الطرف بذلك عن الإنجازات والتطورات الإيجابية التي تشهدها بعض دول المنطقة، وساعدت في تعميم هذه الصورة السيئة عن القارة بأكملها، دون الاعتراف بالتنوع الكبير بين الدول الأفريقية.
ومع ذلك، تسعى الصحافة السمراء لتقديم سرد بديل عن شعوبها، يركز على قصص النجاح والإنجازات والتحديات التي تواجهها المجتمعات الأفريقية وكيفية مواجهتها.
الصحفية في قناة إن بي إس الأوغندية، فيفي بينكي، تروي للجزيرة نت: "أفريقيا دائمًا كانت ضحية للسردية القادمة من وسائل الإعلام الغربية، لكن هذه النظرة النمطية ستتغير تدريجيًا مع الوقت في ظل حالة اليقظة التي تشهدها الشعوب الأفريقية".
تعتقد بينكي أن الهوية الأفريقية يمكن أن تكون ذات قيمة للصحافة، لكنها قد تشكل عائقًا. تقول: "من ناحية، يمكن أن يدفع الشعور بالانتماء الصحفيين لتغطية القصص التي يتردد صداها في منطقتهم، وتعكس السياقات الثقافية، ومن ناحية أخرى، قد تكون هناك ضغوط للامتثال لسرديات معينة، أو تجنب الموضوعات التي تعتبر حساسة، والتي يمكن أن تحد من حرية الصحافة".
تسرد فيفي بينكي: تميز تاريخ الصحافة في أوغندا خلال الحقبة الاستعمارية بتفاعل معقد بين القوة الاستعمارية والمقاومة والنضال من أجل الاستقلال.
أسست الإدارة الاستعمارية البريطانية صحافة تخدم مصالحها في المقام الأول، وغالبًا ما كانت تقمع الأصوات المعارضة، وتتحكم في السرد حول أوغندا. تأسست أول صحيفة في أوغندا (أوغندا جورنال) في عام 1902، لكنها عكست – إلى حد كبير – وجهات النظر الاستعمارية.
مع استقلال أوغندا في عام 1962، تطور المشهد الإعلامي، لكن التحديات ظلت مستمرة، بما في ذلك سيطرة الحكومة وعدم الاستقرار السياسي
ومع اكتساب الحركات القومية زخمًا في منتصف القرن العشرين، بدأ الصحفيون الأوغنديون في استخدام الصحافة كأداة للنشاط السياسي. أصبحت صحف مثل (أوغندا أرغوس)، والآن (نيو فيجن) و(إيست أفريكان ستاندارد) منصات للتعبير عن المشاعر القومية والدعوة إلى الاستقلال. واجه الصحفيون الرقابة والمضايقة والسجن، لكنهم لعبوا دورًا حاسمًا في رفع مستوى الوعي بالقضايا الاجتماعية وتعبئة السكان ضد الحكم الاستعماري.
مع استقلال أوغندا في عام 1962، تطور المشهد الإعلامي، لكن التحديات ظلت مستمرة، بما في ذلك سيطرة الحكومة وعدم الاستقرار السياسي. أصبحت الصحافة ساحة معارك للسلطة، حيث حاولت أنظمة مختلفة التلاعب بالصحافة أو قمعها.
تقول بينكي: "الصحافة الأفريقية – بما في ذلك أوغندا – لديها القدرة على إعادة تشكيل السرديات حول القارة، وتعزيز فهم أكثر دقة لحقائقها، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة، في مقدمتها التحول الرقمي الذي يشكل فرصًا وعقبات في نفس الوقت، وسيعتمد مستقبل الصحافة في أوغندا على كيفية التعامل مع هذه التحديات في سياق المشهد الإعلامي المتطور".
أظهرت أفريقيا منذ القرون الماضية أنها طليعة في الصحافة، ولا تتردد في فضح أضرار الحكومات الاستعمارية أو النخب الأفريقية آنذاك، ومن أهم الصحف قديمًا: "لاغوس ويكلي ريكورد" ( نيجيريا)، "كيب تاون غازيت آند أفريكان أدفرتايزر" (جنوب أفريقيا)، "الوقائع المصرية" (مصر)، "حضارة السودان" (السودان).. لقد شهد الشمال والشرق من أفريقيا صحوة باكرة في الصحافة، لكن هذا لم يكن بعيدًا عن الجنوب والغرب، اللذين ظلا على الدوام في حالة من النضال الاجتماعي والثقافي.
يقول وزير الإعلام السوداني السابق، حمزة بلول: "صمدت الصحافة الأفريقية في مواجهة التحديات مجتمعة، إذ نشأت في ظل استعمار رسم لها هامشًا ضيقًا للحريات، ووضع قوانين تمنعها من القيام بدورها التنويري، والإسهام مع شعبها في النضال ضد المستعمر.
كان هناك عدد كبير من الصحفيين، مناضلين وحملة مشاعل تنوير، لذا استطاعوا جعل الصحافة الأفريقية إحدى أهم أدوات مكافحة الاستعمار وسردياته، فالصحافة في ذلك العهد ساهمت في نيل الشعوب استقلالها".
يسرد حمزة بلول: "لم تأتِ الحكومات الوطنية وفق تصورات الإعلام الأفريقي، الذي خرج منهكًا من الحقبة الاستعمارية، لتتوالى الانقلابات العسكرية في عدد كبير من دول أفريقيا. واجهت الصحافة تحديات أصعب بكثير من تلك التي واجهتها أثناء فترة الاستعمار. كان من السهل على الحكومات العسكرية إغلاق المؤسسات الإعلامية، ومضايقة أصحاب المستقلة لدرجة الزج بهم في السجون".
يعتقد حمزة أن أفريقيا "بحاجة لتطوير العمل الصحفي – بشكل خاص الإعلام الحقوقي والتنموي – والدخول بقوة إلى الإعلام الرقمي، الذي أصبح فاعلًا أكثر من الصحافة التقليدية.
هشاشة وسائل الإعلام الأفريقية ساعدت على ترسيخ المفاهيم الغربية، وأفسحت المجال للسردية الغربية، وتركتها تخاطب الشعوب الأفريقية من منظوراتها الخاصة
- هل تسعى وسائل الإعلام الغربية للاعتذار بسبب النهج الذي تتبعه في سردها للحالة الأفريقية؟
يعد إصدار "مشروع 1619" الحائز جوائز من مجلة نيويورك تايمز، لنيكول هانا جونز، شكلًا من أشكال العدالة التصالحية مع المجتمعات المهمشة من أفريقيا، وإعادة للنظر في تأطير فهم التاريخ الأميركي من خلال وضع العبودية، وإرثها المستمر في قلب السردية الإخبارية القادمة من أفريقيا.
تقول أستاذة الإعلام في جامعة القاهرة، إلهام يونس: "إن الصحافة الأفريقية لم تستطع تغيير الصورة النمطية التي سردتها وسائل الإعلام الغربية عن أفريقيا؛ فالصحافة في القارة تعمل بنظام العزف المنفرد، من خلال تغطيتها للإنجازات والتنمية السياسية من منظورات محددة، بينما تحارب مواقع التواصل الاجتماعي الأداء الصحفي، وما يحتويه من ممارسة ثقافية في أفريقيا".
وترى إلهام "أن التحديات الماثلة للصحافة في أفريقيا هي ما تتناوله وسائل الإعلام الغربية تجاه الأفارقة، ومواقع التواصل الاجتماعي التي تدعم فكرة الصورة النمطية لبعض الدول الأفريقية من خلال ما تنشره من صور للحروب والأمراض هناك".
هشاشة وسائل الإعلام الأفريقية ساعدت على ترسيخ المفاهيم الغربية، وأفسحت المجال للسردية الغربية، وتركتها تخاطب الشعوب الأفريقية من منظوراتها الخاصة.
يقول رئيس تحرير المرصد الإثيوبي، أنور إبراهيم: "الإعلام الغربي لم يقدم أفريقيا بالصورة التي يراها الأفارقة، دائمًا ما يُظهِر القارة من منظور الفقر والتخلف والصراعات، وهي صورة سلبية عن المشهد الأفريقي. ولا ننسى أن الاستعمار لعب دورًا كبيرًا في جعل الصورة النمطية سيئة ومرتبطة بكل ما هو سلبي، وأزاح الإيجابي عنها، وهنا مربط الفرس.. التحرر من الفكر الغربي، الذي يحاول أن يوضح أن الحلول الأفريقية لدى الغرب فقط دون غيرهم".
يعتقد أنور "أن الهوية الأفريقية تشكل عائقًا بسبب الانتماء للمستعمر من خلال الثقافة واللغة؛ فالقارة منقسمة بحسب اتجاهات وثقافات المستعمر، التي فُرضت على الواقع في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.
يسرد أنور إبراهيم: "تاريخ الصحافة في إثيوبيا يعود إلى عقود طويلة، كان هناك نوعان منها: واحدة باللغة المحلية منذ عهد الإمبراطور هيلي سيلاسي الأول منذ عام 1923 وحتى 1974، وأخرى موجهة وكانت من بينها وسائل إعلام تتبع لمؤسسة الصحافة الإثيوبية، والتي جُلب إليها أجانب من الخارج، منها صحيفة (العلم) الصادرة باللغة العربية وهي صحيفة موجهة، وهناك صحف خاصة بحركات التحرر الأفريقي.
ظلت الصحافة في إثيوبيا بلغات عدة: الأمهرية والعربية والإنجليزية واللغات الأخرى المحلية الخاصة بالقوميات لفترات طويلة، كانت إثيوبيا أقدم دولة في المنطقة تمتلك صحفًا وإذاعات موجهة، لأنها لم تُستعمر من قبل الأوروبيين سوى في محاولات قليلة، وكان للصحافة الإثيوبية تأثير فاعل في التصدي للتحركات السياسية والحكومات المختلفة.
لقد حاول الشمال على الدوام المحافظة على حظوظه في التفوق العرقي رغم حالة الانفتاح والتطور التي وصلها، بل قام بإنشاء معسكر من المناهضين لكل فكرة تحاول النبش في التاريخ، وإعادة صياغة ما كتب تحت ذريعة "مواجهة النظرية العرقية النقدية"، ومن هنا يظهر جليًا كيف تفكر وسائل الإعلام الغربية، ومن أين تستقي فكرتها، وإن بدا ذلك غير معلن.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.