يقول الحارث المحاسبي: الرضا هو سكون القلب تحت مجاري الأحكام..
الرضا لغة ضد السخط، والرضا بالشيء الركون إليه وعدم النفرة منه. واصطلاحًا: هو طيب النفس بما يصيبها ويفوتها مع عدم التغيّر.
الرضا من أعظم النعم، وهو مرتبة عالية من مراتب الصبر، وتُضفي على النفس الهدوء والطمأنينة، وتُكسب صاحبها التوازن النفسي، وتبعث بين جوانحها السعادة، وتُعطي للحياة معنى. وكلما زاد مستوى الرضا، انخفضت مستويات القلق والتوتر، وخفّت آثار الضغوط اليومية على أعصابه، ما يحفظ صحته النفسية والجسدية.
تناولت الدراسات تأثير القيم على مفهوم السعادة، وقارنت بين مجتمعات غربية وأُخرى شرقية، وأكدت أنّ الناس من ثقافات مختلفة يمكن أن يحملوا تفسيرات مختلفة
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ عِظم الجزاء من عِظم البلاء، وإنّ الله إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخِط فله السخط".
الرضا من الصفات التي تجلب الهدوء، والقدرة على مكابدة الحياة، والعيش فيها بأحسن ما يمكنه ذلك. والرضا ثمرة من ثمرات المحبة، أعلى مقامات المقربين، وهو باب الله الأعظم، ومستراح المتقين، وجنة الدنيا.
يعتبر الرضا عن النفس من أهم الدرجات التي على الناس الوصول إليها، لأنّها تجعلهم يترفّعون عن كل ما لا يناسبهم. يقول ابن عطاء: "الرضا نظر القلب إلى قديم اختيار الله للعبد وهو ترك السخط".
وقد تناولت الدراسات تأثير القيم على مفهوم السعادة، وقارنت بين مجتمعات غربية وأُخرى شرقية، وأكدت أنّ الناس من ثقافات مختلفة يمكن أن يحملوا تفسيرات مختلفة. وأنّ غالبية الثقافات الشرقية تُقدر الانسجام بين الأشخاص ومجتمعهم.
أما الثقافة الغربية، فإن الإنجاز والفردانية معيار ذو أهمية للرضا. ولقد صاغ الكاتب ميتش ألبوم تلك الاختلافات الثقافية في إدراك الرضا عن أشخاص ينتمون إلى أديان مختلفة، ومن أعمار مختلفة، وينتمون إلى أعراق مختلفة، وكيف يستخدمون ثقافتهم في رؤية الأشياء، وأهمية الإيمان في أوقات الإنسان الصعبة.. ليخلص إلى أنّ "سرّ السعادة في الرضا". ومن ثم فإن للدين دورًا مهمًّا في الشعور بالرضا. فغالبية الرؤى الدينية تُكسب الإنسان الكثير من الطمأنينة وراحة البال، مستخدمة الرضا كعلاج حاسم لتقلبات الحياة وصروفها .
عندما تتقبل شيئًا فإنك تحرر نفسك لكي تشرع في المضي قُدمًا في الحياة.. في القبول نستمتع بتجربة التناغم، نشعر وكأن الأحداث تتدفق، نشعر بالأمان، هناك شعور (أنا بخير)
هناك ارتباط وثيق بين الرضا وبين الصحة النفسية، ومقاومة الاكتئاب. وحسب منظمة الصحة العالمية، فإن الاكتئاب يصيب أكثر من 350 مليون شخص، ويمثل خامس الأعباء المرضية في العالم.. الرضا هو أحد الأبعاد الرئيسية للصحة العقلية .
" لا يمكن أن يشعر المرء بالراحة ما لم يرضَ عن نفسه".. مارك توين
الرضا هو ما يحدث عندما ندع الأمور تمضي، نتركها كما هي بدلًا من أن نحاول تغييرها، آملين لو أنّها كانت مختلفة.
قد يكون من الصعب تقبل وضع يجعلنا غير سعداء.. لكن، عندما لا نستطيع تغييره، فإن التقبل هو الطريقة الوحيدة للعثور على راحة البال، والمضي قُدمًا في الحياة .
إنّ الرضا يعد أمرًا اختياريًّا، وهو أمر يستحق القيام به، لأننا مع الرضا نشعر أنّنا أكثر هدوءًا وسعادة، وتبدو الحياة لنا أكثر وضوحًا.
إنّ الوصول إلى حالة الرضا بمثابة رحلة بالنسبة لنا؛ فعليك أن تعيش الحياة التي لديك بكل ما منحتك إياه، وتتعلم التعايش معها.. العثور على الرضا والتقبل مثل فك شفرة سرية، فالفارق الذي يُحدثه الرضا لا يكاد يصدَّق .
والتقبل والرضا يختلفان عن الخضوع، إذ إنّ الخضوع لشيء أمر مُحبط، بيد أنّ التقبل يحمل في طياته الكثير من الأمل، فعندما تتقبل شيئًا فإنك تحرر نفسك لكي تشرع في المضي قُدمًا في الحياة.. في القبول نستمتع بتجربة التناغم، نشعر وكأن الأحداث تتدفق، نشعر بالأمان، هناك شعور (أنا بخير).
ينبغي لنا أن نتعلم التقبّل، تقبُّل الحياة وتقبُّل أنفسنا.. ليس على نحو أعمى ولا مغرور، بل مع ابتسامة وتسليم
في القبول يكون الشعور بالتوازن، وأنه لا بأس بأن نكون أنفسنا.. مع التقبل لا حاجة لتغيير أيّ شيء، كل شيء جميل بالحالة التي هو عليها .
وهو لا يتحقق بين عشية وضحاها .
إنّ أعظم شيء في الرضا هو أنّه يستدعي أفضل ما فينا.. العطف، والبهجة، والدفء تجاه بعضنا.
عندما نعرف كيف نتقبل الحياة بلطف ودون خوف، حينئذ نكون مستعدين لأي شيء، بغض النظر عن أيّ أزمة أو صعوبة تأتي، فإننا نستطيع أن نتلقاها بهدوء، وتمضي الحياة بسلاسة!. ينبغي لنا أن نتعلم التقبّل، تقبُّل الحياة وتقبُّل أنفسنا.. ليس على نحو أعمى ولا مغرور، بل مع ابتسامة وتسليم .
هناك العديد من الطرق التي يتحقق بها الرّضا والقبول، وهي تقودنا بالنهاية إلى حالات الوعي المرتفعة التي تأتي بعدها:
- تقبل ذاتك وواقعك، لأنّ قبولك لذاتك يُعدّ مفتاحًا لتقبّل الآخرين .
- تجنب مقارنة نفسك بالآخرين .
- عزّز ثقتك بنفسك.. بدل أن تركز على نقاط ضعفك، حاول أن تُحصي نقاط قوتك .
- تذكر أن الدنيا لا تعطيك كل شيء، ولذلك ركز على ما تملكه .
- اشعر بالنعم التي تغمرك .
- لا تبحث عن الكمال في الدنيا .
- كلما كنت أكثر نفعًا للآخرين زاد مستوى رضاك .
- الامتنان، هناك ارتباط وثيق بين الامتنان وبين الشعور بالرضا.
الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره ذروة سنام العبادة، وهو المؤشر لاكتمال الإيمان، إن عدم الرضا عن النفس والواقع لا يغير من حياة الإنسان شيئًا، إلّا أنه يصيبه بحالة من القلق والضجر
أخيرًا
الرضا ليس مجرد فهم سطحي للأمور، بل هو فلسفة حياة تقوم على القبول التام لكل ما يحدث في حياتنا، بما في ذلك الأشياء التي لا يمكننا تغييرها، فعندما نتقبل الأمور كما هي نجد أنفسنا أكثر سعادة ورضا .
يقول الفاروق عمر: "الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلّا فاصبر".
والرضا يحتاج أن ننظر إلى حياتنا بطريقة موضوعية وواقعية ومنطقية، نحاول فهم أنفسنا، ونقدر إمكاناتنا وقدراتنا، وظروفنا التي خلقَنا الله فيها مهما كانت صعوبتها.
الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره ذروة سنام العبادة، وهو المؤشر لاكتمال الإيمان، إن عدم الرضا عن النفس والواقع لا يغير من حياة الإنسان شيئًا، إلّا أنه يصيبه بحالة من القلق والضجر.
ويظل رضا أهل غزة أسمى وأكمل درجات الرضا.. يحمل الرجل منهم وحيده الذي انتظره سنوات طوالًا شهيدًا بين ذراعيه مرددًا برضًا وتسليم: حتى ترضى يا الله!. أو تلك الخنساء التي فقدت أبناءها وهي تردد برضا لو وُزِّع على أهل الأرض لكفاهم: خذ من دمائنا حتى ترضى يا رب.
وما زالوا بعد عام كامل من القتل والتنكيل والتشريد والتجويع والخذلان يضربون للعالم أروع الأمثلة في الرضا والتسليم .
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.