يعيش النظام السياسي العراقي تناقضًا حادًا وصراعًا، برز بعد أحداث عام 2014، بين خطين بارزين داخله: خط يرفع شعار التفاوض لحل المشكلات، وخط يرفع السلاح لحل المشاكل ذاتها.
يُلاحظ على الخط الأول، الذي يمثله العديد من الساسة العراقيين بمختلف توجهاتهم وخلفياتهم الحزبية، أنهم دعاة دولة ولو وفق معاييرهم، لكنها تبقى ضمن حدودها وإقليمها. من بين هؤلاء جزء من الجيل المؤسس لمجلس الحكم والفترة الانتقالية، وجيل انفصل عن الأحزاب الراديكالية مثل حزب الدعوة، وبقية أحزاب المعارضة ما قبل عام 2003، ضمنهم اليسار العراقي، إضافة إلى بعضِ الشخصيات التي غادرت أروقة الحزب الإسلامي، وجزءٍ كبيرٍ من الأحزاب الكردية، فضلًا عن آخرين من الجيل الجديد الإسلامي والعلماني الصاعد والمعارض.
في المقابل، هناك أبرز زعماء الفصائل المسلحة، وجزء من الأحزاب الإسلامية، إلى جانب من اصطف مع قوى السلاح التي تمتلك بدورها علاقات إقليمية عميقة. وتمثل هذه العلاقات شراكة تسليحية وعقائدية، وهي شراكة عابرة للحدود، لا يمكن أن تخضع لرغبات دعاة الدولة.
هذا الوضع يُعرّض العراق لخطر التحوّل إلى هدف مباشر في دائرة الحرب، كما أشار الإعلام الإسرائيلي الذي سلط الضوء مرارًا على شخصيات عراقية بوصفها أهدافًا محتملة
تركَة السلاح بعد عام 2018
بعد انتهاء معارك التحالف الواسع الذي شكّلته الدولة العراقية لمحاربة تنظيم الدولة، برزت تركة ثقيلة من السلاح والفصائل خارج إطار الدولة الدستوري، عبثت بموازين القوى داخل النظام السياسي، من خلال وجود كمٍّ من الجنود والأسلحة هو أكبر من طاقة ومساحة النظام.
وتشعر معظم هذه الفصائل بأنها صاحبة فضل في بقاء النظام السياسي، وتطالب بحصة في إدارة الدولة وقراراتها السياسية والسيادية.. هذا الشعور بدوره استُخدم كورقة ضغط في المساومات السياسية، وتمت الاستعانة بها من قبل معظم صقور النظام السياسي، ما زاد من هيمنة هذه الفصائل على قرار الدولة، وأضعف نفوذ دعاة بناء الدولة الطبيعية.
ورغم تقنين وجود "الحشد الشعبي" ضمن هيكل المؤسسة العسكرية، بقيت السلطات الموازية للدولة عقبة أمام فرص بسط نفوذها، ما صعّب على دعاة الدولة تقرير مصيرها دون تدخل قوى السلاح.
أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول وتصاعد الأزمة
تفاقم الصراع بعد أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، حيث دفعت هذه التطورات بعض الفصائل العراقية إلى الانخراط في الحرب بشكل رسمي إلى جانب إيران، التي تمثل الحليف الأبرز في هذا الصراع على المستويين: الإقليمي والدولي. عمليًا، لم تكن هذه الفصائل منفصلة عن إرادة النظام السياسي العراقي، بل إنها سيطرت على جزء من القرار السياسي عبر ممثليها في البرلمان، وأعضاء في حكومة محمد شياع السوداني، التي تعمل تحت ظلال هذا الصراع المستمر.
الآن، وبعد مرور عام على هذا الحدث العاصف في الشرق الأوسط، يظهر النظام السياسي العراقي في موقف حرج أمام طرفي الصراع: دعاة التفاوض ودعاة السلاح؛ فهو من جهة لا يفي بالتزاماته الدبلوماسية، ومن جهة أخرى لا يحقق متطلبات دعاة القوة العسكرية. وقد تجلّى ذلك في بيان الحكومة الذي شدد على أهمية الدبلوماسية والمفاوضات ورفض العدوان، بينما استمرت بعض الفصائل في إطلاق المسيَّرات من الداخل العراقي، متهمة الطرف الآخر بالتطبيع والعمالة.
هذا الوضع يُعرّض العراق لخطر التحوّل إلى هدف مباشر في دائرة الحرب، كما أشار الإعلام الإسرائيلي الذي سلط الضوء مرارًا على شخصيات عراقية بوصفها أهدافًا محتملة. هذه التطورات أضعفت موقف دعاة التفاوض، وأثارت حفيظة القوى المسلحة، التي تسعى لتحويل طاولة التفاوض إلى منصة لإطلاق الصواريخ والمسيّرات، في ظل الدعم الإيراني المستمر لمحور المقاومة، الذي يحظى بتأييد إعلامي من مساحة الإعلام العراقي.
يواجه النظام السياسي العراقي أعباءً كبرى نتيجة الحروب الداخلية والصراعات المستمرة، إضافة إلى الحراك الشعبي المطالب بتحسين الخدمات، ومعالجة تردي الأوضاع الاقتصادية ومكافحة الفساد المتجذّر منذ عام 2003
موقف الشارع العراقي
لم ينفصل الشارع العراقي عن القضايا القومية، رغم ما يعصف به من مشكلات اقتصادية واجتماعية وحروب مستمرة على مدار مئة عام من تأسيسه. فقد أبدى المواطنون العراقيون تضامنهم الحقيقي مع القضية الفلسطينية، بما في ذلك دائرة الحرب التي تشمل لبنان. ومع ذلك، تسود هواجس كبيرة حول جدوى الحروب، لا سيما أن العراق ذاق مرارتها مرارًا وتكرارًا، ويدرك تمامًا تبعات أن تكون الدولة في حالة حرب.
من وجهة نظر كثير من العراقيين، لم يتعافَ البلد بعدُ من حروبه السابقة، وما زال يعاني اقتصاديًّا وأمنيًّا واجتماعيًّا؛ فما زالت مشكلات مثل تهجير السكان قائمة، إلى جانب آثار الصراعات الأخرى التي أرهقت البنية الاجتماعية. يقابل هذا المزاج الشعبي رأيٌ آخر تتبناه الآلة الإعلامية للفصائل المسلحة، التي تحثّ الشارع على القبول بالتواجد في دائرة الحرب، ما يخلق حالة من الانقسام الداخلي حول الموقف من هذه الصراعات الإقليمية.
هذه الأزمة لا تقل حرجًا عن الأزمة التي واجهها النظام عام 2014.. أفثمة نجاة، أم إن طاولة التفاوض والسلوك الدبلوماسي سيتحولان إلى منصة لانطلاق الطائرات المسيّرة؟
خيارات النظام السياسي العراقي ومستقبل الأزمة
تظل خيارات النظام السياسي العراقي مرتبطة بتطورات إقليمية وخارجية خارجة عن إرادته، أهمها استمرار الحرب من عدمه، وطريقة تعامل إيران مع الضغوط الدولية، ومدى استعدادها للتضحية بحلفائها في المنطقة -خاصة في العراق- في سبيل تحقيق مكاسب في ملفات حساسة مثل الملف النووي.
في ظل هذه التحديات، يواجه النظام السياسي العراقي أعباءً كبرى نتيجة الحروب الداخلية والصراعات المستمرة، إضافة إلى الحراك الشعبي المطالب بتحسين الخدمات، ومعالجة تردي الأوضاع الاقتصادية ومكافحة الفساد المتجذّر منذ عام 2003.
في اعتقادي الشخصي، هذه الأزمة لا تقل حرجًا عن الأزمة التي واجهها النظام عام 2014.. أفثمة نجاة، أم إن طاولة التفاوض والسلوك الدبلوماسي سيتحولان إلى منصة لانطلاق الطائرات المسيّرة؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.