شعار قسم مدونات

محاولة في نقد الحداثة (2)

BLOGS الحداثة
الحرية الغربية هي منتوج صُنع بالأساس لخدمة المادة والاقتصاد الذي تحكم فئة محددة زمامه (مواقع التواصل)

عاش العالم الغربي خلال العصور الوسطى، التي أعقبت اضمحلال وتفتّت الإمبراطورية الرومانية الغربية، قرونًا من الظلام الدامس، في تابوتٍ مقفل بإحكام من الكنيسة الأوروبية.. واعتقد الغربيون أنهم أضحوا في عالم تنيره الحداثة، منذ اختراع غوتنبورغ للطباعة، مرورًا بالثورة اللوثرية، وصولًا إلى الثورة الفرنسية ثم الصناعية، متوهِّمين أن الحداثة ستبصم على عهد جديد، سيزدهر فيه الفرد الغربي الذي قبرته وضمرته الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى.

في الواقع، ليست الحداثة سوى كارثة من كوارث الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى، والرأسمالية هي ركيزتها، والفرد الحداثي وقودها الذي يحترق ويتبخر من أجل ضمان استمرارها في ازدرائه وتهميشه والتهامه، وذلك منذ أن يخرج من رحم أمه حتى يدفن ويُردَّ إلى تربته التي خُلق منها.

الفرد الحداثي يعتقد اعتقادًا قاطعًا أنه حُرّ في اختياراته، لكنه ليس على ذلك، بل هو ضحية منظومة اقتصادية متوحشة، جردته من حريته الحقيقية وخلقت له وهمًا أعطته اسم الحرية، وجعلت منه إنسانًا مفرط الاستهلاك

الحرية الغربية: حرية مكبَّلة بأصفاد الرأسمالية

إن كان ثمَّة تعريف للحرية؛ فلا أعتقد أن هناك من سيخالفنا ويضادُّنا إن قلنا إن الحرية هي التحرر من القيود التي تقيِّد سلطة المرء على نفسه في اتخاذ القرارات وتحديد الخيارات، وتتموضع غرائز وشهوات النفس البشرية في قمة هرم هذه القيود، التي يجب على المرء التحرر منها، واستحضار سلطة العقل والضمير إن كان فعلًا يريد لنفسه حرية.

إعلان

خلافًا لما أشرنا إليه، فإن الحرية الغربية تستعبد الإنسان الحداثي، وقد جعلت منه أسيرًا لمتطلبات السوق والاقتصاد والقيم المادية؛ فالحرية الغربية هي منتوج صُنع بالأساس لخدمة المادة، والاقتصاد الذي تحكم فئة محددة زمامه، ثم إن الهدف الأساسي للدولة هو استمرار دوران عجلة الاقتصاد باعتباره يجذب الأموال، وهذه الأخيرة تجذب الدفاع والجنود والقوة التي هي جوهر الدولة وأصل وجودها.

يظن الفرد الحداثي أن حريته شاسعة شساعة الكون، وهي في حقيقة الأمر متناهية الصغر، ومقبوضة وبإحكام في نواحٍ أخرى، بل في منبعها الذي يعطيها شكلًا ومسارًا. فالفرد الحداثي يعتقد اعتقادًا قاطعًا أنه حُرّ في اختياراته، لكنه ليس على ذلك، بل هو ضحية منظومة اقتصادية متوحشة، جردته من حريته الحقيقية وخلقت له وهمًا أعطته اسم الحرية، وجعلت منه إنسانًا مفرط الاستهلاك، باذخًا، ومسرفًا، وخانة مقتنياته الثانوية أوسع مساحةً من خانة حاجياته الضرورية، وكم من الثانويات صارت من الضروريات، وأصبح يُخيَّل إلى الحداثي أن الاستغناء عنها أمر غير ممكن.

لقد جعلت الحداثة الغربية الفردَ الحداثي لا يعرف غير الحرية الاقتصادية والسياسية، كأن الحرية وليدة الحضارة الغربية، ومعها بدأ التاريخ والحضارة.

يعتقد الحداثيون أنهم بالتكنولوجيا سيحظون بسعادة أبدية، وبالعولمة سوف يستوردونها، لكنهما لم تنجحا سوى في تصدير التفاهة والسخافة، ومنح صوت ومكانة للتافهين للترويج لسُخفهم وغبائهم والجهر بهما

العولمة: انفتاح للاقتصادات.. إبادة للخصوصيات

أصبح العالم، بعظمة مساحته، وارتفاع نموه الديمغرافي، واختلاف ثقافاته، يعيش في أوج تبادلاته الاقتصادية؛ بحرًا على ظهر بواخر لها القدرة على مقاومة أمواج المحيطات العاتية، وجوًا عبر أساطيل تتحدى قانون الجاذبية، وبرًا عبر ممرات وطرقات طويلة ووسائل لوجيستية.

نظرًا لهذا التحول، يُفترض أن يكون الجيل الحالي أسعد جيل في تاريخ البشرية، لما توفرت له من شروط الحياة السعيدة، ومن تطورات شملت جميع مناحي الحياة. ولكن، رغم كل هذا التطور العلمي والتكنولوجي فإن جيل الشباب الحالي يركبه اليأس، ويستوطنه الحزن ويسكنه الإحباط، أكثر من أي جيل في تاريخ البشرية، واستفحلت فيه الأمراض النفسية وحالات الانتحار، وهذا هو ثمن العولمة.

إعلان

يعتقد الحداثيون أنهم بالتكنولوجيا سيحظون بسعادة أبدية، وبالعولمة سوف يستوردونها، لكنهما لم تنجحا سوى في تصدير التفاهة والسخافة، ومنح صوت ومكانة للتافهين للترويج لسُخفهم وغبائهم والجهر بهما، فيصيبون بمرضهم المعدي أولئك الذين يعتدّون بهم ويتخذونهم مؤثرين، من كبارٍ وصغارٍ، وإناثٍ وذكورٍ.

لقد نجحت التكنولوجيا والعولمة أيضًا في جعل العالم قرية واحدة، بل غرفة واحدة، بلا هويات وبلا خصوصيات للأفراد، حيث الفرد الحداثي يشارك كل ما زاول من أنشطة منذ استيقاظه من نومه حتى يستسلم لسلطته.

الفرد الحداثي لم يكتفِ بتدمير نفسه فقط، بل أيضًا كل ما يحيط به، وما طالته وبلغته أياديه من فواصل من الكائنات الحية، التي تختفي كل يوم بسبب الجشع في تراكم الثروة مقابل تدمير الطبيعة والمنظومة البيئية

الحداثة: شبح يرسو على أنقاض المنظومة الأخلاقية

أدَّت الحداثة إلى تراجع مجموعة من القيم كالجماعية والتضامن الاجتماعي، ما وهَّن الروابط الأسرية والاجتماعية التي كانت في الماضي – قبل ابتلائنا بالحداثة- من السمات التي تتسم بها المجتمعات على اختلاف جغرافيتها ودياناتها وثقافاتها.

أمَّا بعد ابتلائنا بالحداثة، فقد حلَّت الفردانية محلَّ الجماعية، التي للأفراد فيها حقوق وعليهم واجبات، واتفقوا فيها بإجماع ضمني على القيم الأخلاقية، وذلك لأجل تحقيق المقاصد العامة والمشتركة، وغدا كل فرد يشتغل في منظومة فردية، وباستقلالية تخضع فيها الحقوق والواجبات لمنطق وهوى الفرد، والأخلاق للنسبية، وأصبح كل فرد يحدد قيمه الخاصة، ما يؤدي بلا ريب إلى تآكل القيم المشتركة، وتصادم الفرد مع الجماعات.

الحداثة الغربية: أداة لتدمير الطبيعة

الفرد الحداثي لم يكتفِ بتدمير نفسه فقط، بل أيضًا كل ما يحيط به، وما طالته وبلغته أياديه من فواصل من الكائنات الحية، التي تختفي كل يوم بسبب الجشع في تراكم الثروة مقابل تدمير الطبيعة والمنظومة البيئية، والكوكب برمته في طريقه إلى الهاوية، وحتى المحيطات وما تحويه من كائنات حية لم تسلم من فساد الحداثة.

وما تطور العلوم والأبحاث التي يُجتهد في تطويرها في مجال الفلك إلّا لغرض واحد، وهو إيجاد بديل لهذا الكوكب، الذي يحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة بسبب آثار وعواقب الثورة الصناعية.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان