يعتبر البعض تجارة المخدرات أكثر التجارات المحرّمة في العالم، فهي من أكثر الأشياء تدميرًا للبنية الأساسية للمجتمعات، لذلك تطبَّق على مرتكبي جرائمها عقوبات تصل إلى الإعدام.
لكن رغم ذلك، بلغت عائداتها مطلع القرن الحالي 321 مليار دولار، في حين كانت مداخيل دول العالم أجمع في العام نفسه 36 تريليون دولار، أي إن ما يعادل 1% من حجم الأموال التي كان يتمّ تداولها في العالم كانت تُصرف على الحشيش وأخواته!
قام العلماء باختراع آلة غزلٍ تُنتج خيوطًا أسرع وأدقّ من تلك التي يُنتجها العمال يدويًّا، ورغم أنها في البداية لم تكن ترضي متطلباتهم، فإنها كانت إنجازًا عظيمًا
في بدايات القرن السابع عشر، قامت الملكة إليزابيث الأولى بإنشاء شركة الهند الشرقية، أولى الشركات الجديدة التي استُحدثت لتقوم بدور ذراع الملكة الاقتصادي على الأراضي الهندية، كاستعمار من نوع جديد.
كانت أهداف بريطانيا واضحة من البداية، ولاء أكبر قدر من البشر للملكة، والتوسُّع في الأسواق لبيع السِّلع البريطانية، لكن كانت أمامهم عقبة لا تسمح لهم بهذا التمدد الهائل، فقد كان العمل اليدوي هو المصدر الوحيد تقريبًا لإنتاج السلع، وكان العمال وأصحاب الحِرَف غارقين في مرحلة انتشاء مُزمنة، لما في مقدورهم تقديمه للعالم من المنتجات التي تزيد قيمتها يومًا بعد يوم، نتيجة زيادة كثافة البشر في الأرض، لذلك كان الحرفي هو العنصر الأهم في منظومة الإنتاج؛ فالجميع في حاجةٍ دائمةٍ إليه.
لكن تلك العمالة لم تفِ بما كانت تطمح له الملكة، كانت ترى أنَّ بإمكانها تحقيق المزيد، فكان لا بد من إيجاد حلّ، فبدأ علماء الملكة في البحث والتنقيب، عسى أن يجدوا شيئًا يجعل الصناعة أكثر تطوُّرًا.
وبالفعل قام العلماء باختراع آلة غزلٍ تُنتج خيوطًا أسرع وأدقّ من تلك التي يُنتجها العمال يدويًّا، ورغم أنها في البداية لم تكن ترضي متطلباتهم، فإنها كانت إنجازًا عظيمًا. وبعد عدّة محاولات، نجح الصنّاع في ابتكار آلة غازلة مثالية، تُنتج خيطًا أرفع وأقوى، لتصبح صناعة النسيج – مع ما حصل من تقدُّم في صناعة الحديد والصُّلب – بدايةً حقيقيةً لثورةٍ في عالم الصناعة!
وفي عام 1781م، استطاع العالم الأسكتلندي (جيمس واط) اختراع المحرك البخاري، معتمدًا على الاختلاف الحجمي للماء بين حالتيه السائلة والغازية، ومن هذا المُنطلق استطاع تقديم اختراعه الأهمّ.. لأول مرة يرى العالم المحركات البخارية، والتي كانت بمثابة الديناميت الذي فجَّر كل شيء، بعد أن كانت آلات الغزل التي اخترعها أقرانه قد استطاعت أن تُشعل فتيل الثَّورة.
كان اتّساع تجارة الحكومة البريطانية في السوق الهندية كبيرًا بعد تلك الاختراعات.. لكن رغم هذا، لم يستطيعوا اقتحام السوق الصينية بالشكل الذي يليق بالإمبراطورية العظمى، فلم يكن الاقتصاد بين البلدين يعبِّر عن الفرق العسكري الهائل بينهما
وسرعان ما اكتشف العالَم أهمية هذا الاختراع العظيم، خاصَّة أصحاب رؤوس المال، حيث وجد فيه أصحاب المصانع ضالَّتهم، وبدؤوا في استبداله بكثير من مجهودات وحِرف العمال.
وهَب هذا المحرك الفرصة لأصحاب المصانع لتسريح كثير من العمال، مستغلّين الوضع الجديد بأفضل طريقة في سبيل تحقيق أهدافهم، ورغم أنهم من البداية لا يهمُّهم إلا تضخيم ثرواتهم، فإن حاجتهم للعمال كانت تفرض عليهم إبداء المزيد من الاحترام لهم، لكن الآن، لن يُضطرّ أحدهم لفعل شيء.. باختصار، جعل هذا التطور أصحاب رؤوس المال طواغيت، وأصبح وضع العمال يسوء يومًا بعد يوم!
لكن من منظور الرأسمالية، لم يقم أصحاب رؤوس المال بأي شيءٍ خاطئ، بل لم يتجاوزوا أيّ بندٍ من بنود النظام، يجب أن نتفق أن الهدف الأوحد للرأسمالية هو إنماء الثروة، دون النظر إلى أي جوانب أخرى.
على الجانب الآخر، كان اتّساع تجارة الحكومة البريطانية في السوق الهندية كبيرًا بعد تلك الاختراعات.. لكن رغم هذا، لم يستطيعوا اقتحام السوق الصينية بالشكل الذي يليق بالإمبراطورية العظمى، فلم يكن الاقتصاد بين البلدين يعبِّر عن الفرق العسكري الهائل بينهما، فكان الاكتفاء الذاتيّ الذي تتمتَّع به الصين سدًّا عتيدًا أمام الإنجليز.
وعلى الجانب الآخر كان رواج المنتجات الصينية عاليًا في الأوساط الأوروبِّية، فمُنتجاتهم من الحرير والشاي ذات جودةٍ عالية، فكانت أوروبا تستوردها بكمياتٍ كبيرة مقابل الفضة، ما خلق فجوة اقتصادية كبيرة لصالح الصين، ولم يكن أمام الإنجليز إلا التخطيط لحلّ تلك المعضلة.
نجح الصينيون في منع الأفيون من بلادِهم، ما أدّى إلى تكدُّس الأفيون في مخازن البريطانيين، وعاد الانخفاض في منحنى اقتصاد تجاراتهم مع الصين مرَّة أُخرى، فقرروا الردّ عليهم بالقوَّة، واستُخدمت مدفعية الأسطول البريطاني في المحيط الهنديّ لضرب شواطئ الصين
لم تنتظر الملكة طويلًا، حتى قرر البريطانيون اقتحام السوق الصينية بالطريقة القذرة، والتي لا تختلف كثيرًا عن أفعالهم، وذلك عن طريق تجارة الأفيون، حيث تمت زراعته بصورة كثيفة في أرض البنغال، واستطاعوا تهريبه بكميات كبيرة إلى داخل الصين، ولم تمرّ سوى فترة قصيرة حتى زادت أعداد مدمني الأفيون من الصينيين، ووصل عددهم عدة ملايين، ما زاد من الاستهلاك الكبير للأفيون البريطاني، وأدَّى إلى خلق توازنٍ اقتصاديٍّ بين البلدين.
هذا التحول جعل المجتمع الصيني في تخوفٍ حقيقيّ، فقد لوحظ أيضًا تأثير الأفيون على نشاط العمال، بشكل أدى إلى خفض إنتاجيَّتهم، وإضعاف هممهم، فقرر الإمبراطور (داو غوانغ) تحريم تجارة الأفيون بصورة رسمية، وأرسل بذلك خطابًا إلى الملكة يُحمِّلها فيه المسؤولية الأخلاقية تجاه هذا الأمر، وطالب الشركات الأجنبية في بلاده بتسليم مخزونها من الأفيون، على أن يعطيها في المقابل ما يساويه من الشاي.
لكن لم تُفلح كل تلك المحاولات، فلم تُذعن لكلامه الشركات، ولم تستمع الملكة لخطابه، فقرّر استخدام القوة في التصدي لتلك التجارة، حيث فعل ما يشبه التأميم الجزئي للشركات الرافضة لقراراته، وتوعَّد من يتورط من شعبه في تلك التجارة بالإعدام!
بتلك القرارات، نجح الصينيون في منع الأفيون من بلادِهم، ما أدّى إلى تكدُّس الأفيون في مخازن البريطانيين، وعاد الانخفاض في منحنى اقتصاد تجاراتهم مع الصين مرَّة أُخرى، فقرروا الردّ عليهم بالقوَّة، واستُخدمت مدفعية الأسطول البريطاني في المحيط الهنديّ لضرب شواطئ الصين، لتُلحق بهم هزيمة قاسية، ما أجبر الإمبراطور على توقيع وثيقة مع الإنجليز لتقنين الأفيون عام 1842! فيما بعد، عُرفت تلك الطريقة في التَّفاوض بدبلوماسية مدافع الأسطول.
ظن الحكام أن كتابتهم تلك القوانين، ستُكتب معها النهاية لتلك التجارة، فكما بدأت بوثيقة، يمكن أن تنتهي بوثيقة، لكن يبدو أنهم نسوا أنها لم تبدأ بوثيقة كما زعموا، بل بدأت بالمدافع، وما تبدؤُه المدافع لا شيء يُنهيه
نمت تجارة الأفيون كثيرًا بعد تلك الاتفاقية، ولم تكتفِ بحدود الصين كحدود لتلك الصناعة الجديدة، فتخطَّت كل الحدود، وتفشَّت في كل البلدان، وأصبحت أوروبا وأميركا أمام الشبح الذي استحدثوه قديمًا في الصين، ما اضطروا معه إلى سنِّ قوانين رادعة للتخلُّص من تلك الآفة، واعتُبرت في بعض البلدان ضمن الجرائم التي تستوجب أشد العقوبات.
لكن هيهات، فقد تفنَّنن الناس في تلك الصناعة، وخلقوا لها قواعد جديدة، تنافس في إحكامها قوانين الدول، بل وتفوقها دِقَّةً وحذرًا، فقسَّموا المناطق لسهولة التوزيع، واستخدموا الطريقة الهرمية في الإدارة، ليكون لكل بلد زعيم كبير، يرأس العديد من مسؤولي المناطق، وكلّ مسؤول منطقة يرأس عدة تجار متوسطين، لسهولة الوصول إلى المناطق الأصغر، ولدى كل تاجر موزعون صغار، وهو ما يُعدُّ حلقة الوصل بين عالم المخدرات والعالم الطبيعي.
ويلحق بكل هؤلاء منظومة تأمين لا تقلّ دقَّةً عن منظومة البيع الرئيسية، تتكفَّل بتأمين سير عمليات البيع، وضمان حياة القائمين عليها.. منظومة مُتكاملة، لا تستطيع الحكومات مواجهتها رغم كل القوانين التي يعملون خلفها.
ظن الحكام أن كتابتهم تلك القوانين، ستُكتب معها النهاية لتلك التجارة، فكما بدأت بوثيقة، يمكن أن تنتهي بوثيقة، لكن يبدو أنهم نسوا أنها لم تبدأ بوثيقة كما زعموا، بل بدأت بالمدافع، وما تبدؤُه المدافع لا شيء يُنهيه.. ولا حتى المدافع!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.