شعار قسم مدونات

رهبة الكتابة!

الروائي يفقد جزالته وبراعته حين يكثر من الثرثرة والكلام، لأن فنّ الرواية يستلزم ميزانًا في الكلام (شترستوك)

كتابة رواية متقنة أمر ليس سهلًا أو ممتعًا!. ذلك لأن الرواية ليست كلامًا مسلّيًا ولغة منمقة فقط؛ إنها فكرة جيدة بأسلوب سردي جيد، إن لم يكن مبهرًا.

الصعب فيها ليست الفكرة فقط، فثيمات الأدب شبه مكرورة، بل صياغة الفكرة الجيدة بأسلوب مبتكر وإبداعي، يكون خاصًّا بك أولًا، وقادرًا على جذب وإقناع القارئ ثانيًا.. تتشابه الفِكَر، لكن الأساليب ينبغي أن تكون متفردة.

نعم، ليس أمام الروائي سوى طريقتَين كي يأخذ بتلابيب القارئ، ويجرجره خلفه حتى آخر سطر: أن يكون موضوع الرواية وفكرتها وحبكتها مدهشة غير مسبوقة، أو أن تكون لغة الرواية ومفرداتها وصياغتها مدهشة غير عادية.

ولكي تكتب سردًا مدهشًا بلغة جاذبة وفكرة مبتكرة تحتاج إلى ثقافة عالية، ورصيد لُغوي هائل، وخيال جامح؛ وملكة كتابة تسري في دمك مثل الكهرباء في بطارية لا تنفد أبدًا.

الروائيون ليسوا كائنات ثرثارة، الروائي يفقد جزالته وبراعته حين يكثر من الثرثرة والكلام، فن الرواية يستلزم ميزانًا في الكلام؛ فما زاد عن توصيل المعنى والفكرة والوصف اعتُبر إسهابًا وفضفاضية مخلّة بالنص.

الرواية أشبه بمساحة من الخانات الصغيرة، كل كلمة تسد خانة لتكتمل المساحة، فلا يحشر أكثر من كلمة في الخانة ذاتها لتظهر زوائد إطنابية تفسد تنسيق المشهد.

تعلم أنّ الراوي يستطيع قول كل شيء دون أن يكذبه أحد، ودون أن ينكر أحد، فكل ما يكتبه هي حكايات وأساطير لا تخص أحدًا

إنها حكايتك

إن فكرة أي رواية تشتعل في رأسك هكذا مثل مصباح.. كلما تقدمت فيها أضاءت لك دروبًا ومحطات جديدة أنت لم تتوقعها؛ لذا من الصعب ألا يكون هذا المصباح في رأسك أنت لتوجهه جيدًا.

إعلان

أحيانًا، لا يستطيع الكاتب ألا يُضمِّن تجربته الشخصية في كتاباته، لكنه يكتبها غالبًا كما يتخيلها لا كما هي فعلًا، وهو بهذا ليس شخصًا أنانيًّا يضخم ذاته حتى يجعل نفسه محور كتاباته وعذاباتها، التي قد تكون تافهة في عين الآخر؛ بل هو شخص شجاع وضع ذاته ومشاعره على طاولة التشريح كمادة لقياس، وتقويم الآخرين لأنفسهم.

تنتابك -كراوٍ- الحماسة لقول كل شيء في داخلك؛ تعلم أن الراوي يستطيع قول كل شيء دون أن يكذبه أحد، ودون أن ينكر أحد، فكل ما يكتبه هي حكايات وأساطير لا تخص أحدًا.

نكتب ونعرف أننا قد نتعثر، وربما نتوقف، ولكننا نعود لنكتب من جديد، نسعى للفرح والسعادة بالكتابة

تشعر بالقلق من قول كل ما تريد؛ لأنك تعلم أن هناك حاجزًا غير مرئي في عقل الكاتب يحرمه تدفق ما يرغب في قوله؛ كأنما لهذا الحاجز ثقوب صغيرة لا تنسل منها الحقائق الكبيرة، فيحجزها رغمًا عنا.

هذا الصنف من الكتابات لا يشبه صنفًا آخر من الإبداع قائمًا فقط على ألم الضمير!. حين يسرف المبدع في مصادمة عقائده الأخلاقية والدينية، ويهاجم كل الثوابت والقيم.

نكتب ونعرف أننا قد نتعثر، وربما نتوقف، ولكننا نعود لنكتب من جديد، نسعى للفرح والسعادة بالكتابة.. فرح الكتابة طريقه شاق ومتعب، لكن مذاق الوصول في النهاية مختلف؛ إنه سعادة أشبه بالتطهر والخلاص؛ كأنما تسدد ديون الآخرين، وتؤتي كل شخص ما يستحق، لتشعر بسعادة النقاء في النهاية.

والكاتب يضع لمساته الأخيرة غُرَزا تمتّن النص، يبدو مثل جرّاح تجميلي يخشى أن يحدث تشوهًا عوضًا عن صنع شيء جميل. هذه اللمسات هي ختم خروج الرواية من تحت سلطته، وبعدها تحدث القطيعة المعتادة بين الكاتب وإنتاجه السابق.

أحبس أنفاسي محاولة ترتيب سطوري ورعيل خيولي الجامحة.. وفجأة تنبت لها أجنحة وتطير كالصافنات الجياد!

بالنسبة لي، كتابة رواية جديدة تُشعرني بالارتباك والقلق والحماسة معًا، كأنما أسير فوق لوحٍ زجاجي على علو شاهق، ولا أدري.. هل يحتملني؟ أو أني أسير على قشرة جليد لا أدري سماكتها؛ هل تهوي بي فيبتلعني الجليد؟ في بداية أي عمل كتابي أشعر بالرهبة!!

إعلان

تتوالد الفِكَر والحوارات داخلي؛ الكلمات والجمل تتسابق في رأسي كخيول جامحة أعجز عن ترويضها، تتدافع فتشل يدي عن البدء؛ أحاول ترويضها في فضاء مخيلتي المفتوح، فتقفز كلها دفعة واحدة يرتفع صهيلها فيخرس نقر أصابعي.

أحبس أنفاسي محاولة ترتيب سطوري ورعيل خيولي الجامحة.. وفجأة تنبت لها أجنحة وتطير كالصافنات الجياد!. لأطير خلفها في ملكوت الكتابة، أصيد الكلمات وأحكم وثاقها..

ما أشد رهبة الكتابة!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان