شعار قسم مدونات

هموم غربية: هل تحل الأخلاق محل الدِّين؟!

يرى الملاحدة الغربيون أنهم موجودون في الحياة ليحتفلوا بها دون الحاجة إلى التعمق في كيفية بداية الوجود (شترستوك)

لم تعد أخبار الاعتداءات المرتبطة بالمؤسسات الدينية في الغرب شيئًا جديدًا.. ربما الجديد هذه المرة أنها ولَّدت الضغط الإعلامي والسياسي والأخلاقي اللازم لإجبار جاستين ويلبي، رأس كنيسة إنجلترا، كبير أساقفة كانتيبري، على الاستقالة في الثاني عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، لإتاحة الفرصة لإجراء المراجعات والتعديلات اللازمة، وسط اتهامات بعلمه المسبق بالانتهاكات.

يعيد الدين تسويق نفسه عند هذه المجتمعات بأنه الطريق للنسبية والاعتدال، وأنه إذا كان بالإمكان الحكم بالخطأ أو الصواب من تدافع آراء البشر، فإن الأخلاقيات ومعاييرها ومحدداتها لا بد لها من سردٍ وضبطٍ إلهي

تأتي هذه الانتهاكات لتهز مجتمعًا يعيد تعريف علاقته بالدين والتدين باستمرار، وعلاقة الدين بالأخلاق، ومدى ضرورة الأول ومحوريته لازدهار الثاني، كقيم تتلبس الناس في سلوكهم اليومي.

فقبل عامين، ولأول مرة في التأريخ البريطاني، عرَّف الأغلبية علاقتهم بالدين والتدين بأنها غير موجودة!. نسبة البريطانيين الذين عرَّفوا أنفسهم بأنهم متدينون أو يشكل الدين بالنسبة لهم شيئًا مهمًا – حتى وإن كانوا غير ملتزمين بتعاليمه – بلغت أقل من 49%.

منذ قرون عديدة تشكلت فكرة الإله عند المجتمعات الأوروبية، وصارت هذه الفكرة المستمدة من التراث المسيحي الأساس الأخلاقي الهادي للمؤسسة السياسية والمجتمع على حد سواء. شكل الدين بالنسبة لهذه المجتمعات قاعدة أخلاقية يتشاركها الغالبية إن لم يكن الكل في بعض الحقب، وهو ما عدَّه المستنيرون ضرورة لاستنهاض الأمة، وشحذ هِمَمها، وفرض سيادتها وقيمها بين بقية الأمم.

إعلان

حديثًا تنامى التيار الإلحادي باطِّراد في السنوات الثلاثين الماضية، وتنامى معه كذلك تيار من اللادينيين، ممن لا يعنيهم الدين كثيرًا، ولكن لا يُنكرون بالضرورة فكرة الإله.. صاحب ذلك توطُّد الموروث العلماني الغربي، ومحاولاته الدؤوبة لفرض نفسه كبديل للدين والأخلاق.

يحتجّ الملاحدة بأنهم – كبقية الناس – تحكمهم المعايير الأخلاقية الحاكمة للمجتمع، ولا حاجة لهم إلى قوة خارقة عليا تملي عليهم ما هو "معلوم بالضرورة".

في مقابل هذه الهَبَّة الجارفة، يعيد الدين تسويق نفسه عند هذه المجتمعات بأنه الطريق للنسبية والاعتدال، وأنه إذا كان بالإمكان الحكم بالخطأ أو الصواب من تدافع آراء البشر، فإن الأخلاقيات ومعاييرها ومحدداتها لا بد لها من سردٍ وضبطٍ إلهي يتعالى على منطق البشر وموروثهم المعرفي. وتنتج من رحم هذا التدافع بين الفريقَين جدلية مستمرة، محورها العلاقة بين الدين والأخلاق.

كثير من الملاحدة لا يرون بأسًا في الاستفادة من طقوس الموروث الديني، باعتباره إرثًا إنسانيًا تطور عبر آلاف السنين، وهم مستعدون للدفاع عن ذلك رغم الاتهامات المتكررة لهم بالتَّطفُّل الانتقائي على الدين

مبدأ مركزية الإنسان كأساس للأخلاق

يرى الملاحدة الغربيون أنهم موجودون في الحياة ليحتفلوا بها دون الحاجة إلى التعمق في كيفية بداية الوجود، وفلسفة ما وراء ذلك، وأهم من ذلك، دون الحاجة إلى فكرة الإله. ولكن في الوقت ذاته، لا يجد معظمهم غضاضة في الاستفادة من موروث الأديان عبر الحقب والأزمنة. فمثلًا، بعض جماعاتهم تنظم احتفالات أعياد الميلاد (الكريسماس) بصورتها التقليدية المعروفة، وتنظم تجمعات أشبه بصلوات يوم الأحد في الكنيسة، وما يرافقها من غناء وتجمع لاحتساء الشاي فيما بعد.

فكثير من الملاحدة لا يرون بأسًا في الاستفادة من طقوس الموروث الديني، باعتباره إرثًا إنسانيًا تطور عبر آلاف السنين، وهم مستعدون للدفاع عن ذلك رغم الاتهامات المتكررة لهم بالتَّطفُّل الانتقائي على الدين.

أما عن فكرة "المُقدس" عند الملاحدة، ومكانها من كل هذا، فإن معظمهم يرى أن كل ما يتعلق بالحياة يعتبر مقدسًا، وهو معنى بالضرورة لا يتماشى مع التفريق الواضح بين مبدأ المُقدَّس والدَّنِس عند الأديان، وعليه يصبح كل شيء تقريبًا يمكن تبريره. أما بالنسبة للقوانين والنظم، فالإنسان هو واضعها وهادمها في الوقت نفسه إن شاء.

إعلان

بالرغم من عدم واقعية هذا الطرح، وكونه فكرة فضفاضة لا تنتهي إلى شيء، فإن جاذبية هذه الفكرة لدى الملاحدة تكمن في ميوعتها، ومقدرتها على إعادة تعريف معنى الحياة كلما أحس أتباعها بالملل؛ فهي غير مُلزمة بتبنِّي قيم عليا، ولكنها في الوقت نفسه قد لا تجد غضاضةً في أن تأخذ بعض طقوس الدين المظهرية، بدون الحاجة إلى الدين نفسه أو الإيمان وتبني فكرة الإله.

لا بد من التذكير أيضًا أن تسلط الكنيسة المفرط في بعض حقب التاريخ المسيحي ساهم في ظهور تيارات تعتد بعقلانيتها، وبالأفكار والحركات المجتمعية الناتجة من حاجة الإنسان. ينظر العقلانيون إلى هذه الحركات الاحتجاجية باعتبارها نبعًا إنسانيًا خالصًا، ولذا يتوجب الدفاع عنه، والمحافظة عليه بكل السبل. ولكن في المقابل، تجد هذه الحركات انتقادات من داخل التيار العقلاني نفسه، باعتبارها أصبحت تنحو منحًى أقرب لأن تكون معه دينًا للمتحمسين لها.

يشعر الملاحدة واللادينيون أن القول بربط الأخلاق بقوة عليا هو في الحقيقة تقليل من قدرات العقل البشري، بل وتجريم له بوصفه غير قادر على تثبيت هذه المعاني السامية بتلقائية ذاتية دون تدخل فوقي

حاجة الأخلاق إلى الدين كقوة فارضة

هل من الممكن حيازة الأخلاق دون الحاجة إلى فكرة الإله والتعاليم السماوية؟! يحتج أنصار التدين الغربيون بأن الفكرة بالرغم من سهولتها وبساطتها لا تحمل عوامل الاستمرار، ولذا لا بد للأخلاق من فكرة القوة العليا لتكون الخلفية التي تنطلق منها عوامل استمرارها.

يمثل هذا المنحى المنطلق الفكري الذي يحتج به المتدينون في الغرب؛ فالقول بأن الحياة هي المركز الذي تدور حوله عوامل البقاء والأخلاق يبدو فضفاضًا، لتشعب معنى الحياة نفسها، فهي الرخاء والفقر والغنى والمرض والإحساس بالآخرين والعنف والتسلط.. إلخ. وكل معنى متشابك في هذه الحياة، وبالتالي فإن جعلها المركز الذي يدور حوله مبدأ الأخلاق قد لا يكون مناسبًا.

أضف إلى ذلك، أن البشر عندما لا يتعلق معنى الحياة والأخلاق عندهم بمبادئ سماوية عليا، فإنهم دائمًا ما ينحدرون لتصبح حياتهم أكثر قيمة من غيرهم، وأولوياتهم كمجتمعات لا تراعي أولويات غيرهم، وغير ذلك من تراجيديا الحياة اليومية.

إعلان

ولذلك فإنه من الصعوبة القبول بمبدأ مركزية الإنسان والإجماع الإنساني كأساس تنبني عليه الأخلاق، قادر على الصمود على المدى البعيد. أيضًا، تحمل هذه الفرضية ثقة لا محدودة في البشر وقدرتهم على الوصول إلى نقطة مركزية تمثل الأخلاق من بين كمٍّ شائك من التقاطعات الحياتية.. حتى لو تحقق ذلك على المستوى الفردي اتكاءً على الإرث الإنساني دون الحاجة إلى الدين، فإن تحقيق ذلك على مستوى المجتمع قطعًا سيكون مهمةً بعيدة المنال.

يعضد الفكر الديني الغربي موقفه من علاقة الأخلاق والدين بالتأكيد على أن الأخلاق في كنهها تحتاج إلى بناء عقدي محكم، بدونه قد ينفرط الأمر إذا تُرك تنظيمه للتجربة الإنسانية وحدها.

أضف إلى ذلك أن البشر بصورة عامة مفطورون على أن هناك قوة تسيطر على حيواتهم، لا تملك تجربتهم الإنسانية ولا علومهم المُمارَسة ولا مُخيَّلهم تفسيرًا لها. ولذا، فإن المعيار الأخلاقي هو شيء أعقد وأكثر بكثير من أنه مجرد إجماع بشري وحسب، وعليه فإن المحافظة على أي معيار أخلاقي في غياب الدين والإيمان تبدو ضربًا من المستحيل.

في المقابل، يشعر الملاحدة واللادينيون أن القول بربط الأخلاق بقوة عليا هو في الحقيقة تقليل من قدرات العقل البشري، بل وتجريم له بوصفه غير قادر على تثبيت هذه المعاني السامية بتلقائية ذاتية دون تدخل فوقي، ويحتج كثيرون منهم بأن الإيمان في ذاته غير مطلوب للتمسك بالأخلاق، ولكن هذا المعنى يختلف تمامًا عن تعريف وفرض الأخلاق ابتداءً.

وهذه الجزئية تتطلب الانتباه إلى أن ترك بعض المعاني فريسة للإجماع البشري المتقلب حتمًا سيكون له تداعيات خطيرة، وعليه ليس من المستغرب أن يصطف المتدينون في الغرب للتنبيه إلى أهمية النص الديني كتعاليم لا تقبل الالتفاف على معانيها ومقاصدها.

كثيرون في الإسفير العلماني في الغرب يتوجسون من التعاليم الدينية، ويُظهرون ارتياحًا أكثر لمبدأ يعتمد تمييع هذه الفرضية، ويضع الإنسان ونظرته للأشياء كمحور تقوم عليه الأخلاق

العلم الحديث وإضافته للأخلاق في مقابل الدين

من الصعب التكهن على المدى البعيد بآثار التقدم البشري الحالي في مجال العلوم والتكنولوجيا وعلاقة الإنسان في الغرب بالدين.. أسيجعل ذلك التقدم الدين أكثر محورية في حياة الإنسان، أم ستعمق نظرته للدين كطلاسم لا معنى لها؟

إعلان

ربما هذا سؤال ستجيب عنه مآلات التدافع الحالي بين الفريقين في العقود القادمة. ولكن لعله من الملاحظ أنه كلما ازدادت أعداد المهتمين بالعلوم، زادت أعداد الذين يهتمون بالقراءة العميقة واستخلاص الحكمة من النص الديني، لإثراء النقاش حول دور ومحددات وآثار العلوم والدين في الحياة العامة للبشر.

ليست هنالك بالضرورة مقاربة دينية للعلوم العصرية، ولكن الدين بصورة عامة يعطي المهتمين بأمره في تلك المجتمعات تعريفات ومفاهيم عامة جيدة عن معانٍ مثل كنه الإنسان ومعنى الازدهار والحياة المثالية.

دائمًا سيكون هنالك من يرفضون الدين بصورة مطلقة، وآخرون سيرفضون العلم الحديث بالقدر نفسه، ولا بد من وجود نقطة بينهما تمثل الاعتدال. فمن الصعب القول إنَّ الدليل العلمي وحده هو المطلوب لتوجيه الأفراد والمجتمعات والسياسات العامة.

وذلك يرجع لطبيعة هذه الأدلة، فهي تقوم بوضع الحقائق أمام الناس، ومن جانبهم قد يرونها ضارة أو نافعة وقد يأخذون بها أو لا، ولكنها تظل حقائق لا تعطي الإحساس بالوجوب والإلزام الأخلاقي، بعكس الدين الذي يقول صراحة بما ينفع ويضر، وبما يجب فعله وما ينبغي الانتهاء عنه.

ختامًا، تشكل التعاليم المسيحية لكثيرين في الغرب الأساس الذي تُستمد منه الأخلاق، والتي لا بد لها بدورها من قوة ميتافيزيائية، فوق تصورات البشر، ومتجاوزة لعدم كمالهم، لتفرضها. هذه النظرة لا تمر بدون تحديات! فكثيرون في الإسفير العلماني في الغرب يتوجسون منها، ويُظهرون ارتياحًا أكثر لمبدأ يعتمد تمييع هذه الفرضية، ويضع الإنسان ونظرته للأشياء كمحور تقوم عليه الأخلاق.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان