حينما يُذكر التاريخ الإسلامي، تبرز شخصيات سلطانية عظيمة جمعت بين العدل، التقوى، والقدرة على قيادة الأمة في أحلك الظروف. وفي الوقت الذي يُنظر فيه إلى غالبية السلاطين الذين تَلوا الخلفاء الراشدين بأنهم سَعوا وراء السلطة والترف، يظل نور الدين محمود زنكي مثالًا استثنائيًا يجسّد الزهد والتقشف، ويُبرز روح القيادة الإسلامية المثالية التي تقترب كثيرًا من نموذج الخلفاء الراشدين.
يُروى أنه رفض بشدة قبول أموال مشبوهة المصدر لدعم الدولة، مؤكدًا أن النصر لا يأتي إلا بمال طاهر وعمل صالح. كما أقام محاكم تحكم بالشريعة الإسلامية دون محاباة، وفرض الرقابة على الولاة لضمان التزامهم
نور الدين محمود: نشأة مباركة ومبادئ سامية
وُلد نور الدين محمود زنكي عام 511هـ (1118) في حلب، وهو ابن عماد الدين زنكي الذي أسس الدولة الزنكية وقاد جهاد الأمة ضد الصليبيين. نشأ نور الدين في كنف والده، متشبّعًا بروح الجهاد والمسؤولية، وتعلم منذ نعومة أظفاره مبادئ العدل والإحسان، فأصبح شخصية تجسد القيم الإسلامية في قيادته وشؤونه اليومية.
زهد نور الدين وتقشفه
كان الزهد سمة أساسية في شخصية نور الدين محمود، فلم تغره مظاهر السلطة أو زخارف الدنيا. كان يسكن في قصر متواضع يخلو من البذخ، ويرتدي ملابس عادية لا تميزه عن رعيته، حتى إن البعض ظنّه في بعض الأحيان واحدًا من عامة الناس. ورغم كونه سلطانًا، فإنه كان يخصّص وقتًا للصلاة، وقراءة القرآن، والتفكر في أمور الدين والدنيا.
عدل نور الدين: نموذج للخليفة الراشدي
امتاز نور الدين بعدله المطلق، إذ كان يرى في الحكم مسؤولية كبيرة أمام الله، لا مجرد سلطة دنيوية. كان يتفقد أحوال رعيته بنفسه، ويسهر على تحقيق العدالة وإزالة الظلم. اشتهرت قصص عديدة عن عدله، منها وقوفه إلى جانب المظلومين حتى لو كان الظالم من خاصته، مما جعل الناس يثقون به ويحبونه حبًا صادقًا.
على سبيل المثال، يُروى أنه رفض بشدة قبول أموال مشبوهة المصدر لدعم الدولة، مؤكدًا أن النصر لا يأتي إلا بمال طاهر وعمل صالح. كما أقام محاكم تحكم بالشريعة الإسلامية دون محاباة، وفرض الرقابة على الولاة لضمان التزامهم بالقانون.
ويقول ابن الأثير عن نور الدين في كتاب البداية والنهاية: «قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أرَ بعد الخلفاء الراشدين، وعمر بن عبدالعزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحريًا للعدل والإنصاف منه.
قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه، وإنعام يسديه، فنور الدين، رحمه الله، لم يأبه بأبّهة الحكم والسلطان ولم يتقاضَ راتبًا من بيت مال المسلمين، وإنما كان يأكل ويلبس هو وأهله من ماله الخاص، ولم يكن له بيت يسكنه، وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة قد اشتراها من ماله، يحل فيها عندما يعود من ساحة الجهاد».
على الرغم من زُهده، لم يكن نور الدين ضعيفًا في إدارة الدولة. بل على العكس، أسّس دولة قوية تعتمد على نظام إداري وعسكري مُحكم، مما أهّله لقيادة الجهاد ضد الصليبيين
ورعه وتقواه
أظهر نور الدين مستوى عاليًا من الورع والتقوى، مما جعله قريبًا جدًا من نموذج الخلفاء الراشدين. كان يُكثر من الصيام والصلاة، ولم يكن يستجيب لدعوات الإسراف حتى في الأفراح والمناسبات.
وكانت مساعيه لبناء المساجد، والمدارس، والمستشفيات تعكس روحًا إيمانية تتجاوز المظاهر الشكلية للدين، لتصل إلى تطبيق عملي يهدف إلى رفاهية المجتمع، كما أنه هو من أمر بتشييد منبر المسجد الأقصى الذي أتى به صلاح الدين الأيوبي بعد فتح بيت المقدس.
في هذا صدد، جاء في كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية و الصلاحية" لقاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة:
«عندما التقت قوات نور الدين في (حارم) بالصليبيين الذين كانوا يفوقونهم عُدة وعددًا، انفرد نور الدين، رحمه الله، تحت تل حارم، وسجد لربه، عز وجل، ومرّغ وجهه، وتضرع وقال: (يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك، أيش فضول محمود في الوسط؟)، ويقول أبوشامة: (يشير نور الدين هنا إلى أنك يا رب أن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر)».
نور الدين والدولة الإسلامية
على الرغم من زُهده، لم يكن نور الدين ضعيفًا في إدارة الدولة. بل على العكس، أسّس دولة قوية تعتمد على نظام إداري وعسكري مُحكم، مما أهّله لقيادة الجهاد ضد الصليبيين. ومن أبرز إنجازاته، توحيد صفوف المسلمين في بلاد الشام والعراق، وتحقيق انتصارات كبرى ضد الجيوش الصليبية، مما مهد الطريق لتحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي.
عدله، وزُهده، وتقواه لم تكن مجرد صفات شخصية، بل هي أسس قام عليها حكمه، مما جعله أقرب إلى الخلفاء الراشدين في سيرته وأفعاله
الدرس من حياة نور الدين في عصرنا الحالي
في عالمنا المعاصر، حيث يسود التصور بأن القيادة مرتبطة بالترف والسلطة المطلقة، تمثل سيرة نور الدين محمود درسًا بليغًا في كيفية الجمع بين العدل، الزهد، والقوة. إنه نموذج يُذكّرنا بأن القيادة الإسلامية الحقة ليست مجرد سلطة دنيوية، بل أمانة ومسؤولية تهدف إلى تحقيق العدالة والارتقاء بالمجتمع.
نور الدين محمود زنكي، الرجل الذي عاش كسلطان لكنه تصرّف كعابد زاهد، يظلّ نموذجًا فريدًا في التاريخ الإسلامي. إن عدله، وزُهده، وتقواه لم تكن مجرد صفات شخصية، بل هي أسس قام عليها حكمه، مما جعله أقرب إلى الخلفاء الراشدين في سيرته وأفعاله.
لقد كان نور الدين تجسيدًا حيًا للمبادئ الإسلامية العليا، وأثبت أن العدل والزهد يمكن أن يكونا قاعدة للحكم الناجح، حتى في أصعب الأوقات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.