شعار قسم مدونات

رواية شعب أراد الحياة

قال محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني للأناضول، إن "خيام النازحين بعدة مناطق بقطاع غزة تعرضت لأضرار جسيمة بسبب تدفق مياه الأمطار، ما أدى إلى تلف أمتعتهم". وأوضح أن "الأضرار تركزت بمخيم ملعب اليرموك، ومتنزه بلدية غزة، و مخيم الشاطئ، وعدد من المدارس، إضافة إلى مناطق وسط وجنوب القطاع". وناشد بصل المجتمع الدولي والأمم المتحدة بـ"التدخل العاجل لإنقاذ النازحين"، مطالبا بتوفير خيام وكرفانات لحمايتهم من أضرار الشتاء. ( Hani Alshaer - وكالة الأناضول )
الكاتبة: نزحنا قرابة 17 مرة ولم نمكث في بيتنا ولو شهرًا واحدًا (وكالة الأناضول)

"في إحدى ليالي شهر أكتوبر/ تشرين الأول الهادئة، نامت غزة تحت غطاء الأحلام البسيطة؛ عائلات تستعد لأسبوع جديد، وأطفال يجهزون حقائبهم المدرسية، وشباب يخططون لأيامهم القادمة.. كان كل شيء يبدو طبيعيًا حتى ذلك الصباح.. ولكن حدث ما لم نتوقعه!

معكم جنى الإسي، لم يبلغ عمري ستة عشر عامًا بعد. فأنا فتاة وُلدَت في حرب، وعاشت طفولتها في حروب، والآن مراهقتها تعيشها في نكبة. فهل خُلقنا للحروب؟ أم الحروب خلقت لنا؟!

جفت دموعنا من البكاء، ولم يغمض لنا جفن منذ بداية الحرب.. كل مرة أنام فيها أستودع الله نفسي وأهلي وأحبتي وجميع أهل غزة، وقبل أن أغفو أذكر: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله".

بدا الأمر ككابوس لا نهاية له، كان صوت الانفجارات يملأ المكان. حينها، لم نسلم من رصاص الاحتلال، ولا من الطائرات المسيرة، أو الزوارق، أو الصواريخ، ولا من قذائف الدبابات

وها أنا أنقل لكم الحدث.. حيث أمسينا في عام "2023"، وانقلبت الأحوال، فأخذ بنا الزمان إلى عام "1948"، عام النكبة التي حلت على فلسطين. دعونا نتحدث عن نكبتنا الآن، في عام "2023"، وبداية حرب "طوفان الأقصى"؛ حرب الفقد، وحرب التهجير، وحرب التجويع. ولا تظنوا أنها المرة الأولى أو الأخيرة، فما دام وُجد العدوان فهذه حياتنا.

فتحت عيني على صوت غريب، كنت أظنه حلمًا، ولكنه كان الواقع. لم ترمش عيوننا من شدة الصدمة! فلكوني طالبة مدرسية، كنت مستيقظة لكي أجهز نفسي وأذهب إلى المدرسة، وكذلك جميع أهل غزة. لكننا تفاجأنا بحرب وأخبار سيئة، وقد حدث كل هذا والساعة حينها السادسة صباحًا. لم تكتمل علامات التعجب والاستفهام على وجوهنا حتى انجلى صباح ذلك اليوم ونحن نقول: ما الذي يحصل؟ ما الذي يحصل؟

إعلان

بدا الأمر ككابوس لا نهاية له، ووجوهنا مليئة بالأسئلة: "ما الذي يحدث؟ هل نحن حقًا في حرب؟.."، حتى أقبل الليل علينا ولم يأتِنا نوم ليلتها، كان صوت الانفجارات يملأ المكان. حينها، لم نسلم من رصاص الاحتلال، ولا من الطائرات المسيرة، أو الزوارق، أو الصواريخ، ولا من قذائف الدبابات. لم يسلم بيت أو مستشفى، مدرسة أو جامعة، أو أي مبنى؛ فقد أصبحت غزة مدينة أشباح.. فقد كثيرون منا أحباءهم، وهناك من هُجِّروا من بيوتهم، وهم لا يعلمون ما إن كانوا سيعودون يومًا.

دعوني أتحدّث عن نفسي، كوني فتاة تعيش في غزة، سأبدأ قصتي.. كنا عائلة، نسكن في بيت تدفئنا جدرانه؛ انتقلنا إليه قبل وقوع الحرب بثلاثة أشهر، وكنا نجهزه ونتحضر فيه. وكان من المفترض أن يكون حفل زفاف أختي الكبرى بتاريخ 14 أكتوبر/ تشرين الأول، الفرح كان يملأ البيت، ولكن الحرب جاءت لتسرق كل شيء. مع بداية الحرب، لم نمكث في بيتنا سوى خمسة أيام، ثم بدأت رحلة النزوح.

أسكن في مدينة غزة، وتحديدًا في حي تل الهوى، وهذه المنطقة تتحول أثناء الحرب إلى مستعمرة لليهود في غزة؛ فالبقاء فيها أشبه بالمستحيل. عندما غادرت منزلي، شعرت كأنني أودعه للمرة الأخيرة، ولم أعد أعلم إن كنت سأراه ثانية. كنت منهارة، خائفة، أريد الذهاب إلى مكان آمن، ولكنني لا أريد أن أترك بيتي، ولا غرفتي، ولا الإطلالة من نافذتي على البحر.

انقلب بنا الحال من حياة طبيعية إلى حياة مليئة بالتحدي والصبر والتأقلم لكي نعيش.. الشوارع حزينة، والسماء مرعبة، وكل الأخبار سيئة، والمكان مليء بالخوف

لم نمكث في أي مكان طويلًا؛ كنا ننزح من مكان إلى آخر طلبًا للأمان.. نزحنا قرابة 17 مرة، ولم نمكث في بيتنا حتى لشهر واحد، كم اشتقت إلى بيتي! في كل مرة نذهب إليه، نجد أنفسنا بعد يومين أو ثلاثة هاربين تحت رصاص الاحتلال والدبابات.

آخر مرة ذهبت فيها إلى منزلي لأحضر كتبي ودفاتري، كي أتمكن من التعلم، كانت بمثابة تضحية كبيرة بأرواحنا؛ فقلت لنفسي: "إذا كانوا يقولون: اطلب العلم ولو في الصين، فنحن نقول: اطلب العلم ولو في غزة".

إعلان

وقد دُمِّر منزلنا جزئيًا، فهناك العديد من القذائف والرصاص اللذين دمرا جدران منزلنا، البيت الذي كان يومًا ملاذنا صار يبدو كأطلال مهجورة.. وأكثر من مرة نحاصر في بيتنا لأيام تحت رصاص الاحتلال والدبابات؛ فكنا ننتظر حلول صباح اليوم التالي لكي ننجو بأرواحنا قبل فوات الأوان. وكل مرة أذهب فيها إلى بيتي أتفاجأ بدمار جديد، وأتمنى أن يكون الأخير.

انقلب بنا الحال من حياة طبيعية إلى حياة مليئة بالتحدي والصبر والتأقلم لكي نعيش.. الشوارع حزينة، والسماء مرعبة، وكل الأخبار سيئة، والمكان مليء بالخوف.. نصلي وندعو الله، ونقرأ القرآن، ونحاول أن نجد تسلية، ولكن صوت الانفجارات يخترق كل هذا.. في هذه الحرب، فقدنا كثيرين، رحمهم الله جميعًا.

ذابت الأيام في بعضها، ولم نعد نعرف أيام الأسبوع! أحلامنا أصيبت في مقتل، وانحصرت في أن نحافظ على حياتنا حتى الساعة التالية. إن كتب لنا العيش، سنروي لكم مما نعيشه ونكابده ولم يخطر على بالكم، ولا حتى في خيالكم.

"سنة وشهر" يا كتاب الهوى، مرة أكون قاتلًا، وفي أغلب المرات مقتولًا!. "سنة وشهر ونصف" يا كتاب الهوى، وغزة على حالها.. فما حال الأمة؟ أين العرب؟ غزة تجوع، وتموت، وتحترق، وتنزف ولا أحد يدري!

يا كتاب الهوى، هل سنعود يومًا إلى دارنا؟ وهل ستعود غزة كما كانت؟ وهل سيعود المهجرون؟ والحرب مستمرة إلى يومنا هذا.

سلام على ما مضى من حياتي صمتًا، فهذه حكايتي، وحكاية شعب أراد الحياة.. ورغم كل هذا فإنني متيقنة ومتفائلة أن لها نهاية، وأن الله سيجبر قلوب أهل غزة

أصبحنا في نهاية عام "2024"، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، ونحن في حيرة من أمرنا، نتساءل هل؟.. وهل؟.. وهل؟.. ولكن جوابنا واحد: أن ننتظر ونصبر، ونضع الأمل واليقين عند الله. فسلام على شعب أراد السلام وخلق للسلام وما رأى يومًا سلامًا.. "فاكتفينا بحسبي الله ونعم الوكيل، ونعم النصير".

"ولا ننسى، إن ما نُقتل ونُهجَّر ونجوع من أجله هو المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وفلسطين؛ فهي أرضنا، وهي مسرى النبي، صلى الله عليه وسلم. إن لم يسأل عنها العرب، فأين المسلمون؟ إن لم تكن قضية فلسطينية وطنية، فإنها قضية دينية؛ ففيها أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين ومسرى النبي، صلى الله عليه وسلم". فما لكم صامتين؟!

إعلان

إن لم نعش بسلام في الدنيا، فلنا الآخرة؛ لنا جنة تنتظرنا. قال تعالى: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}.

سلام على ما مضى من حياتي صمتًا، فهذه حكايتي، وحكاية شعب أراد الحياة.. ورغم كل هذا فإنني متيقنة ومتفائلة أن لها نهاية، وأن الله سيجبر قلوب أهل غزة، لأنه {إن بعد العسر يسرًا}، فيا أهل غزة {لا تقنطوا من روح الله}.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان