لا يوجد شعور يضاهي قراءة كتاب يتناغم مع واقعك، يلمس قلبك منذ الوهلة الأولى، وكأنّه يقرأ ما يجول في خاطرك ويشاركك نفس همومك وآلامك بكل تفاصيلها. فأن تدرك أنّ هناك من عاش نفس التجربة، وشاركك نفس أحاسيسك، هو شعور يستحق الاهتمام بكل تأكيد.. ولكن، بالنسبة للفلسطينيين، هذا الشعور لا يدوم سوى لحظات معدودة، فالألم المذكور في أيّ كتاب، متجذّرٌ في كل زاوية من زوايا حياتهم.
في ظل التطهير العرقي المستمر، لم تعد القراءة في الأدب الفلسطيني تحمل نفس الجاذبية التي كانت عليها سابقًا، وأوجه التشابه بين ما يحدث اليوم وما وقع قبل 76 عامًا تفتك بالقلب بلا رحمة، فالروايات والكتب والقصائد الفلسطينية تروي نفس الحكاية: الألم نفسه، المعاناة ذاتها، والهمجية الإسرائيلية لا تنتهي.
رغم أننا نُجبَر الآن على النزوح داخل وطننا، فإن وطننا نفسه تحول إلى منفانا!. مع الأوامر الإسرائيلية المتواصلة بإخلاء الأماكن، والتي تكاد تكون يومية في جميع أنحاء القطاع
عايش الفلسطينيون منذ نشوء الاحتلال ظروفًا سوداويّة ومؤلمة، حتى باتت كلمات هذه الكتب تلتصق ببشاعة في ذاكرة كل فلسطيني. مع ذلك، فإن النكبة التي وُصِفت بأنها أفظع ما مرَّ به الفلسطينيون، ورغم كونها جرحًا نازفًا في تاريخنا، فإنّها ليست إلَّا مشهدًا تمهيديًّا لمرحلة أبشع من القتل والتدمير..إبادة جماعية مستمرة على غزة، حرب لا يبدو أنها ستنتهي إلا مع مَحْوِنا جميعًا من غزة، إما قتلًا أو تهجيرًا. وفي هذه الإبادة، نعيش نكبات جديدة كل يوم، أو كما قال رفعت العرعير ببلاغة: "يستمر الصراع لأنّ النكبة لم تنتهِ قط".
من أوجه التشابه الصارخة بين معاناة النكبة والإبادة الحالية واقعُ التهجير.. قراءة "رأيت رام الله" لمُريد البرغوثي تدمي قلب كل فلسطيني، وتحديدًا كل غزّي، يقرؤه اليوم إذ لا يمكن لأحد أن يدرك فداحة التهجير إلا من عاشه. وقد وصف مُريد هذه الحالة المدمّرة بدقة، فكتب:
"الغربةُ كالموت، المرءُ يشعر أن الموت هو الشيء الذي يحدث للآخرين، منذ ذلك الصيف أصبحتُ ذلك الغريبَ الذي كنت أظنه دائمًا سِواي.. هو الذي يحتقرونه لأنه غريب، أو يتعاطفون معه لأنه غريب، والثانية أقسى من الأولى.. لكنني أعرف أن الغريب لا يعود أبدًا إلى حالاته الأولى. حتى لو عاد، خَلَص، يصاب المرء بالغربة كما يصاب بالربو، ولا علاج للاثنين".
رغم أننا نُجبَر الآن على النزوح داخل وطننا، فإن وطننا نفسه تحول إلى منفانا!. مع الأوامر الإسرائيلية المتواصلة بإخلاء الأماكن، والتي تكاد تكون يومية في جميع أنحاء القطاع، يصبح الواقع أكثر إيلامًا من مجرد المرور بنوبة ربو، فلا يوجد علاج يخفف من مرارة الخوف والعجز الذي يعتصر قلوب النازحين.
ينبغي أن تتذكر أيضًا أنّ مأساتنا في النزوح تتجلى في جوانب لا متناهية، أبرزها الأمراض التي يتسبب بها، وسرعة انتشارها، والمشاعر السلبية التي تثيرها هذه التجربة العصيبة
ما يزيد من وطأة معاناة النزوح هو أنك تُجبر على ترك مكانك، دون سابق إنذار أحيانًا، وبشكل متكرر وفوري، وليس هذا بأمرٍ جديد.. "مطلوب إخلاء المكان.. إلى أين؟" [رضوى عاشور- الطنطورية]. تلعب بنا إسرائيل كما لو كنا دُمى في يدها: نادرًا ما نحظى بأيام معدودة دون أن نُجبر على الإخلاء مجددًا.
"إلى أين؟".. لم يعد هذا السؤال مجرد استفسار بلاغي يعكس حيرةً بشأن وجهة سفر قادمة، بل هو واقع قاتم، حيث تأمرُ إسرائيل الغزيين – بمن فيهم ذوو الإعاقة، والأطفال، وكبار السن، والحوامل، والمرضى- بالإخلاء المستمر، ليجدوا أنفسهم في النهاية في الشوارع، بلا مأوى ولا حماية.
وقد أشار الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني إلى بُؤسٍ آخرَ، ماضٍ وحاضرٍ، يرتبط بالنزوح، قائلًا: "تذكروا أنكم حين تنقلبون إلى سياراتكم وطائراتكم وبيوتكم مفتخرين بإنجازاتكم، ننقلب نحن إلى الخيمة، الخيمة التي تمثل لكم فرصةً للاطلاع أو تغيير الجو، هي لنا وطنٌ، وقد ضاع الوطن".
ينبغي أن تتذكر أيضًا أنّ مأساتنا في النزوح تتجلى في جوانب لا متناهية، أبرزها الأمراض التي يتسبب بها، وسرعة انتشارها، والمشاعر السلبية التي تثيرها هذه التجربة العصيبة.
في الخيام، لا يجد الغزيون الأمان.. ففي مجزرة الخيام -على سبيل المثال- قتلت إسرائيل 45 فلسطينيًا، في حال لم يكن القتل مباشرًا، فإن الموت يأتي من خلال الإصابة بالأمراض المعدية مثل التهاب الكبد
يُجبرك النزوح، بالإضافة إلى ذلك، على التفكير في القيام بأمور مؤقتة
اليوم، يضطر النازحون في غزة إلى شراء خيمة صغيرة، بمبالغ طائلة جمعوا ثمنها طوال حياتهم، ليتمكنوا من النوم فيها في ظل الطقس القارس، محاطين بالحشرات والحيوانات البرية، ناهيك عن بِرَك الصرف الصحي المجاورة.
وفي أي لحظة، قد يضطرون إلى إخلاء المكان وترك هذه الخيمة التي كلفتهم دفع جهد السنين وراءهم، أو ببساطة، قد تُحرق أو تُستهدف بصاروخ إسرائيلي.
حتى في الخيام، لا يجد الغزيون الأمان.. ففي مجزرة الخيام – على سبيل المثال – قتلت إسرائيل 45 فلسطينيًا، في حال لم يكن القتل مباشرًا، فإن الموت يأتي من خلال الإصابة بالأمراض المعدية مثل التهاب الكبد، أو غيرها من الأمراض الفتاكة التي تنتشر سريعًا في بيئات النزوح.
النزوح لا يقتصر على تهديد الصحة والأمان فقط، بل يُجبرنا أيضًا على التفكير في تدابير مؤقتة. نعيش في انتظار اللحظة القادمة، محاطين بأمل زائف وألم دائم.
"منذ الـ1967م وكل ما نفعله مؤقت و«إلى أن تتضح الأمور».. والأمور لم تتضح حتى الآن بعد ثلاثين سنة"
لقد قسمونا، باستخدام ما يُسمى "الحلبات" (الحواجز الأمنية التي أقامها الجيش الإسرائيلي) إلى منطقتين: شمالية وجنوبية، وكان الادعاء أن الجنوب هي المنطقة الآمنة. ونتيجة لذلك، تشتّت العائلات، وحُظرت المواد الغذائية والأدوية من الدخول إلى الشمال
في بداية الإبادة، كنا نظن أن ذلك ممكن، إذ ظنّ أهلنا أنّ الذهاب إلى الجنوب سيكون آمنًا، اعتقادًا منهم أنّه سيكون "مؤقتًا"، لأسبوع أو أسبوعين على الأكثر، توجهوا إلى هناك دون أن يحملوا معهم سوى ما تيسر، وقبلوا بالعيش في خيمة للتعايش مع الوضع، على أمل أن يكون هذا الانتقال حلًّا مؤقتًا لتفادي الخطر.
والآن، يَنْتابهم الذعر من احتمال عدم قدرتهم على العودة إلى منازلهم في مدينة غزة وشمالي القطاع، إنْ لم تكن قد قُصفت بالفعل.
كما أشار مريد البرغوثي إلى تكتيك إسرائيلي غير إنساني آخر في كتابه "وُلدتُ هناك، وُلدت هنا": "إسرائيل قررت تعليبنا، كل تقاطع هو علبة إسمنتية، ونحن محشورون بداخلها، حركتنا في مكاننا وإلى أي اتجاه مرهونة بإشارة من يدهم، نعم بإشارة من يدهم هم، وإلا فما معنى الاحتلال؟".
من الواضح أن هذا النهج ليس جديدًا؛ وبعد مرور سنوات طويلة، لا يزال الاحتلال الإسرائيلي يمارس نفس الأساليب بوحشية.
لقد قسمونا، باستخدام ما يُسمى "الحلبات" (الحواجز الأمنية التي أقامها الجيش الإسرائيلي) إلى منطقتين: شمالية وجنوبية، وكان الادعاء أن الجنوب هي المنطقة الآمنة. ونتيجة لذلك، تشتّت العائلات، وحُظرت المواد الغذائية والأدوية من الدخول إلى الشمال، في حين مُنع وصول المياه النظيفة والإمدادات الأساسية إلى الجنوب.
هكذا بدت لنا معاناة الشعب الفلسطينيّ في ظلّ الاحتلال المستمر، فكانت المعاناة الأساسيَّة المتكررة هي التهجير القسري مع التهديدات المستمرة، وما ينجمُ عنها من تدهورٍ صحّيٍ ومعنويّ، ونبحثُ في المقالة القادمة الآثار السلبيَّة التي تنتجُ عن هذا التهجير المأساوي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.