في الهزيع الثاني من الليل، حيث معاش الليليين الذين يتسمون بسمات الهادئين، غير أن في دواخلهم أعاصير لا تكفّ فيها العواصف عن الدوران، وسلسلة من البراكين، ما تكاد تبرد صهارة السابق حتى ينفجر اللاحق، حاملًا صهارة أشد حرًا وبأسًا من سابقتها، فتسري في فكرهم سريان الدم في العروق والأوردة. خانني النوم فخنت مضجعي، وسرت نحو البحر، قائلًا في قرارة نفسي: "البحر وافٍ للحركة ولا ينام، وفي يقظته تعزية ومواساة لروح لا تنام".
إنّ الحرية الغربية التي تستعبد الإنسان الحداثي هي حرية مصنوعة بالأساس من أجل خدمة المادة والاقتصاد الذي تحكم فئة محددة زمامه، ثم إن الهدف الأساسي للدولة هو استمرار دوران عجلة الاقتصاد باعتباره يجذب المال
بلغت الشاطئ وكان الضباب قد انحدر من أعالي الجبال، وغمر نواحي الشاطئ مثلما تحجب الصبية الحسناء الخجولة وجهها بنهايات ثوب حجاب رأسها، عندما تمر بمكان عام يؤمه عامة الناس.. وهل فعلًا ما زالت هذه الفئة من الصبايا والنسوة في مسرح الوجود؟
وقفت محدقًا في سلسلة الأمواج، مصغيًا إلى هديرها وتهاليلها، مفكرًا بالقوى السرمدية الكامنة وراءها، تلك القوى التي تركض مع العواصف، وتثور مع البراكين، وتبتسم بثغور الورود، وتتراكم مع الجداول.
وبعد هنيهة، اِلتفتُّ، فإذا بشبحين جالسين على صخر قريب، وأغشية الضباب تسترهما ولا تسترهما، فحملتني قدماي نحوهما بخطوات بطيئة، كأن في كيانهما جاذبًا يستميلني خلاف إرادتي. ولما صرت على بعد خطوات معدودات منهما وقفت شاخصًا بهما، أجدد العزم، وقدماي أبتا أن تخطوا شبرًا واحدًا، في تلك اللحظة وقف أحدهما، وبصوت خلته آتيًا من أعماق البحر، قال: أيها الحداثي الحر (نطقها كأنها شتيمة).. قاطعته: أراك غافلًا، أيها المغفل، لدلالة الحداثة والحرية.
فجال ببصره السماء كأنه يستقرئ ما سيعقب به من النجوم؛ ثم تلفظ: ما رأيت في حياتي من يحمل الجهل بالقناطير المقنطرة بقدر ما رأيت في الفرد الحداثي، إن الحرية الغربية التي تستعبد الإنسان الحداثي هي حرية مصنوعة بالأساس من أجل خدمة المادة والاقتصاد الذي تحكم فئة محددة زمامه، ثم إن الهدف الأساسي للدولة هو استمرار دوران عجلة الاقتصاد باعتباره يجذب المال، وهذا الأخير يجذب الدفاع والجنود والقوة، التي هي جوهر الدولة وأصل وجودها.
اندمج الشبح مع الضباب والهواء وتركني مندهشًا، خائر القوى الفكرية والجسدية، وشعرت أن فِكَري التي طالما مجّدت وقدّست الحداثة قد خانتني خيانة بروتس للقيصر يوليوس
تثاءب الشبح المتحدث، ثم أطال النظر في أمواج البحر قبل أن يتمم -وبصوت أقل خشونة من ذي قبل- حديثه عن الحرية:
- حريتكم يا معشر الحداثيين تتخيلونها شاسعة شساعة الكون، وهي في حقيقة الأمر متناهية الصغر، ومقبوضة بإحكام في نواحٍ أخرى، بل في منبعها الذي يعطيها شكلًا ومسارًا. فالفرد الحداثي يعتقد اعتقادًا قاطعًا أنه حر في اختياراته، لكنه ليس على ذلك، بل ضحية منظومة اقتصادية متوحشة جردته من حريته الحقيقية، وخلقت له وهمًا أعطته اسم الحرية.
- الإنسان الحداثي إنسان باذخ ومسرف، وخانة مقتنياته الثانوية أكبر مساحة من خانة حاجياته الضرورية، وكم من الثانويات صارت من الضروريات، وأصبح يخيل إليكم أن الاستغناء عنها أمر غير ممكن؛ لأنكم تتأثرون بالإشهارات التي غزتكم واستوطنتكم بمحتواها وبنعومتها، وصنعت منكم آلة مصنعة مقابل أجرة هزيلة؛ لتعود وتستهلك جزءًا مما أنتجته مقابل ثمن باهظ وبإسراف.
صمت لحظة، ونظر إليّ نظرة ثاقبة، ربما لكي يتأكد من حضوري، أو ربما ملكه الفضول ليلمح آثار ردة فعلي في تعابير وجهي، ثم أعاد تيار الحديث لمجراه:
- لقد صنعت منكم الحداثة الغربية أناسًا لا يعرفون غير الحرية الاقتصادية والسياسية، كأن الحرية وليدة حضارتهم ومعها بدأ التاريخ والحضارة. إن الحرية الغربية هي حرية فحواها إشباع الغرائز والخضوع التام للشهوات، راسية فوق أنقاض المنظومة الأخلاقية والهوية التي تجسد جذور المجتمعات في فضاء التاريخ، وإلا اعتبروا لقطاء.
- الحداثة الغربية كارثة من كوارث الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى، والرأسمالية هي ركيزتها، والفرد الحداثي هو وقودها الذي يحترق ويتبخر من أجل استمرارها في ازدرائه وتهميشه، وذلك منذ أن تضعه أمه حتى يُدفن ويرد إلى تربته التي خُلق منها.
اندمج الشبح مع الضباب والهواء وتركني مندهشًا، خائر القوى الفكرية والجسدية، وشعرت أن فِكَري التي طالما مجّدت وقدّست الحداثة قد خانتني خيانة بروتس للقيصر يوليوس.
على نهج ونمط الشبح الأول، اختفى الثاني، وذلك بعد أن غذّى وقوّى الدهشة والحيرة اللتين خلفهما كلام الشبح الأول، تاركين وابلًا من الأسئلة تنهمر في رأسي انهمار المطر في المرتفعات، وتنسكب انسكابه
اختفاء الشبح الأول تبعه انتصاب الشبح الثاني الذي كان جالسًا على الصخر، وبصوت كقصف الرعد قال:
- جيلكم توفرت له جميع شروط الحياة السعيدة، من تطورات شملت جميع مناحي الحياة، ورغم كل هذا التطور العلمي والتكنولوجي فإن شبابكم يركبه اليأس، ويستوطنه الحزن، ويسكنه الإحباط، أكثر من أي جيل في تاريخ البشرية، جيل استفحلت فيه الأمراض النفسية وحالات الانتحار.
ثم صوب بصره بيمناه، حيث كان الشبح الأول الذي انخرط وامتزج مع الضباب واقفًا، ثم حرك رأسه موافقًا، ربما نطق له الشبح الأول الذي خلته متخفيًا، وعاد ليحدثني وأنامله جسيمة البنية وحادة الأظفار تغازل شعره الذي بلغ منكبيه، فنبس:
- لقد دمرتم أنفسكم، وكل ما طالته وبلغته أيديكم، يا خلفاء الله في الأرض، فواصل من الكائنات الحية، تختفي كل يوم بسبب جشعكم في تراكم الثروة، مقابل تدمير الطبيعة والمنظومة البيئية، والكوكب برمته في طريقه إلى الهاوية، وما تطور العلوم والأبحاث التي تجتهدون في تحقيق ازدهارها في مجال الفلك إلا لغرض واحد، وهو إيجاد بديل لهذا الكوكب الذي يحتضر ويفقد أنفاسه الأخيرة بسبب ثورتكم الصناعية.
ضحك ضحكًا ساخرًا متثاقل القهقهات حتى بزغ بخار من محجرَي عينينه، ربما هي دموع الأشباح، فاسترسل في حديثه:
- ظننتم أنكم بالتكنولوجيا ستحظون بسعادة أبدية، وبالعولمة سوف تستوردونها، لكنهما لم تنجحا سوى في تصدير واستيراد التفاهة والسخافة، ومنح صوت ومكانة للتافهين، للترويج والجهر بسخفهم وغباوتهم، فيصيبون بمرضهم المعدي أولئك الذين يحتذون بهم ويتخذونهم قدوة، من كبار وصغار، وإناث وذكور.
- لقد نجحت التكنولوجيا والعولمة في جعل العالم قرية واحدة أيضًا، بل غرفة واحدة بلا هوية وبلا خصوصيات للأفراد، حيث الفرد الحداثي يشارك كل ما زاول من أنشطة منذ استيقاظه من نومه حتى يستسلم لسلطته.
على نهج ونمط الشبح الأول، اختفى الثاني، وذلك بعد أن غذّى وقوّى الدهشة والحيرة اللتين خلفهما كلام الشبح الأول، تاركين وابلًا من الأسئلة تنهمر في رأسي انهمار المطر في المرتفعات، وتنسكب انسكابه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.