في الآونة الأخيرة، تردَّدت في الأصداء آراء كثيرة، اعتبرت أن الحرب الجارية كان لها فتيل ساكن، أشعلته الانتقاضة التي حدثت صبيحة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
ربما دعا إلى تبنّي هذا الرأي النظرةُ إلى حال القضية قبيل الحرب، التي أوحت بانعدام النشاطات العسكرية بين الطرفين، المحتل والمقاوم؛ فما يحدث خلف الظلال من أحداث لا يعلو صداه في الوسط، والتغيرات على الصعيد التخطيطي السياسي داخل جدران الكيان لم تكن مثيرة لضجة تلفت انتباه العالم إلى تصعيد قادم يلوح في الأفق.
ولكن، عند إمعان النظر وقراءة السطور الأولى، ربما لن يبقى صعبًا أو معقدًا أن تقتفي أثر الخطوات، وتدرك أن بوادر المعركة بدأت في الوضوح تدريجيًا منذ أن وصل إلى سدة الحكم من يحملون في داخلهم الأماني والنوايا لإشعالها، تيمنًا بالحلم القديم.
فخلال سنوات العقد الأخير، كان جليًّا أن ما يحدث داخل إسرائيل هو انقسام طائفي حاد وشائع، بين أحزاب متفرقة لها اتجاهات ونوايا مختلفة، فالأحزاب الديمقراطية أو اليسارية تسعى إلى عولمة الدولة والمجتمع الإسرائيلي، والأحزاب اليمينية المتطرفة تأخذ مواقفها السياسية وخطواتها الفعلية طابعًا دينيًا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعهود ونصوص قديمة.
نتنياهو كان مدركًا لحقيقة السياسة الإسرائيلية وطبيعيتها التي تتسم بالعنصرية، فالماء لا يمكن خلطه بالزيت، وكذلك الأمر في وجود ائتلاف يضم خصومًا تتضارب مصالحهم الفكرية والسياسية، بل ويضم أعداء من العرب
لم يقتصر الانقسام الحزبي داخل دولة الاحتلال على الآراء السياسية في قرارات المجالس والاجتماعات، بل وضع بصمته أيضًا على وسائل الإعلام من القنوات التلفزيونية والصحف، التي كان لبعضها توجّهات يسارية، ولبعضها الآخر توجهات يمينية، وانعكس أيضًا في زيادة التوتر في الشارع الإسرائيلي بين طوائف المجتمع العامة؛ ما جسد إجمالًا حالة صراع وانقسام شامل وحاد، من البديهي إدراك أنه يتركّز حول القضية المفصلية الأكثر حساسية، المتمثلة في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
فمنذ أن تولت الحكومة السادسة والثلاثون قيادة الدولة الصهيونية، تزايدت التطلعات نحو تحقيق الأحلام الاقتصادية والديمقراطية، واستقلال القضاء عن قبضة الأهواء، والبعد عن دائرة الصراع. وانطلقت منذ بداية عملها تحت شعار "حكومة التغيير" بقيادة الائتلاف المشترك بين أحزاب وأطياف مختلفة، شكلت حكومة "بينيت ولبيد".
وفي ظل المحاولات لتحقيق تلك الطموحات، والتغاضي عن النزاعات التي ظلت مستمرة بين أحزاب الحكومة، كان السباق مع الزمن من أجل النجاح في تمرير الميزانية لأول مرّة منذ 3 أعوام دون السماح للعوائق بتعطيل ذلك.
لكن هذا لم يشفع لحكومة بينيت ولبيد حالة الفوضى العارمة التي ظهرت في التصرف أمام القضايا المحورية، كمسألة القضاء الذي سبق أن أشرنا إلى أن استقلاليته كانت هدفًا من أهداف هذه الحكومة، ومع ذلك انقسمت الآراء الحزبية والشعبية فيما يخصّ الحد من سلطة المحكمة العليا على قرارات الحكومة، ومسألة الخلاف حول القرارات الأحادية التي اتُّخذت من أحزاب بعينها داخل الحكومة دون التشاور، بشأن توسيع المستوطنات واتخاذ تدابير سياسية تجاه الفلسطينيين.
ومن جهة أخرى، كانت مسألة القرار الحكوميّ بتجديد "قانون الطوارئ"، الذي كان بمثابة بداية النهاية بالنسبة لحكومة الائتلاف.
بالرغم من مخاوف أصحاب الرأي الذين أدركوا أن ما حدث قد يفتح الطريق أمام عودة نتنياهو مرة أخرى إلى الواجهة، وكأن قدر دولة الاحتلال مرهون ومرتبط بهذا الشخص، فإن كثيرين قد اتفقوا على أن حكومة الائتلاف لم تستحقّ الإنقاذ
هذه المسائل الحساسة وغيرها، كانت تدار مع هاجس كبير من الترقّب والخوف من عودة أو تمكين "بنيامين نتنياهو" (أو آلة التحريض البشري، كما وصفه أفيغدور ليبرمان) من استغلال ثغرة ناتجة عن تأزم الوضع بسبب الخلافات، والحرص على إبعاده عن المشهد السياسي.
ولكن هيهات، فنتنياهو كان مدركًا لحقيقة السياسة الإسرائيلية وطبيعتها التي تتسم بالعنصرية، فالماء لا يمكن خلطه بالزيت، وكذلك الأمر في وجود ائتلاف يضم خصومًا تتضارب مصالحهم الفكرية والسياسية، بل ويضم أعداء من العرب، الذين "يجب طردهم"، كما صرح إيتمار بن غفير علنًا في البرلمان.. لا يمكن أن يستمر ائتلاف بهذه الطبيعة.
وعلى النحو الميكافيلي "فرق تسد"، مارس "الليكود" لعبته في استغلال النزاع الحكومي بطريقة دراماتيكية، حين عارض نتنياهو -على عكس توجهاته الاستيطانية- التصويت لتجديد قانون الطوارئ، فقط لتظهر الحكومة الائتلافية في موقف الضعف والعجز عن تمرير القوانين التي تضمن التعزيزات الأمنية والحقوق المدنية للمستوطنين في الضفة الغربية، واستمالة اليمينيين في الحكومة إلى صفه بالتحريض لتعزيز فجوة الخلاف. وبالطبع، كان أول المشاركين في اللعبة ذاتها هو حزب "الصهيونية الدينية" بزعامة "بتسلئيل سموتريتش".
نعم، لقد كانت بداية النهاية، والضربة القاضية التي أطاحت بحكومة التغيير، وحُل البرلمان. وبالرغم من مخاوف أصحاب الرأي الذين أدركوا أن ما حدث قد يفتح الطريق أمام عودة نتنياهو مرة أخرى إلى الواجهة، وكأن قدر دولة الاحتلال مرهون ومرتبط بهذا الشخص، فإن كثيرين قد اتفقوا على أن حكومة الائتلاف لم تستحق الإنقاذ.
سموتريتش لم يكتفِ بأنه طرح توجهاته فيما يخص تلك الحرب الوجودية إلى الحد الذي تخطّى به حتى السياسات العلنية لدولته المتطرفة فحسب، فهو رمز من رموز التمييز العرقي، باعتباره أن قتْل الأطفال الفلسطينيين وحرق العائلات ومحو القرى ليس عملًا إرهابيًا
ومع بداية انتخابات جديدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، بدا نتنياهو بكل تأكيد ظاهرًا في المشهد وراغبًا في تصدره، بما لا يتوافق مع مكانته المتدنية التي صار عليها، مع كونه مكبدًا بالأحكام القضائية، ومتهربًا من السجون في قضايا الفساد.. وعلى جانب آخر هناك أحزاب من مختلف الطوائف من الغوغائيين، وممن لا غبار عليهم قضائيًا أو سياسيًا.
ومرة أخرى يدرك نتنياهو أن الفيصل في حسم مقاعد السلطة لن يكون حسب السمعة أو الملف الأمني، بقدر ما أن الكتلة الموحدة ستكون هي العنصر الحاسم؛ فما يحدث في مسار الانتخابات أمامه هو ظهور المزيد من الثغرات التي يتفنن في استغلالها، الممثلة في ترشيح أغلب أحزاب اليسار والوسط نفسها، بشكل منفصل واستقلالي بالأفكار والتوجّهات، فيما كانت فرصته مواتية، لتشكيل كتلة غوغائية وإجرامية لترشيحه ممن يوافقونه الفِكَر والمُعتقدات العدائية الراسخة تجاه العرب، منذرًا بحلول غيوم قاتمة على المشهد، مع اقتراب تولّي الحكومة الأكثر عنصرية وهمجية في تاريخ الدولة الصهيونيّة.
وجد نتنياهو ضالته لتعزيز قوته بالقدر الذي يضمن له النجاح، والتخلص نهائيًا من أزماته في ملفه القضائي في الوقت ذاته، في الضغط على الأحزاب اليمينية المتطرّفة لضمها في قائمته الذهبية، التي كان أبرزها:
- بتسلئيل سموتريتش: زعيم حزب اليهودية الدينية، وقبلها عضو في البرلمان.. وبخلاف المناصب، فهو شخصية تعكس النموذج الغارق في أحلام الدولة التاريخية (إسرائيل الكبرى)، وهو ممن يرون الصراع في صورة حرب وجودية على أرض هذه الدولة ذات الحدود المزعومة في كتبهم المقدسة، وذلك وفق المبدأ "إما نحن وإما العرب".
سموتريتش لم يكتفِ بأنه طرح توجهاته فيما يخص تلك الحرب الوجودية إلى الحد الذي تخطّى به حتى السياسات العلنية لدولته المتطرفة فحسب، فهو رمز من رموز التمييز العرقي، باعتباره أن قتْل الأطفال الفلسطينيين وحرق العائلات ومحو القرى ليس عملًا إرهابيًا، وأن الأم الصهيونية يجب ألا تخالط الأم الفلسطينية أثناء الولادة لأن الأخيرة تنجب إرهابيين، وأن "غولدشتاين" بطل قومي.
- إيتمار بن غفير: زعيم حزب القوة اليهودية (عوتسما يهوديت)، أو الابن البار لمنظمة (كاخ) المحظورة، والشخصية الكاهنية التي ترعرعت على تشرُّب المذهب التطرفي منذ الصغر، والتي كبرت على حلم إعادة بناء الهيكل، وطرد العرب من الأرض إلى الأبد، وإحلال ما عرف بـ"السيادة اليهودية"؛ ما أدى إلى إعفائه من الخدمة العسكرية.
فمعتقداته تلك كانت تهاجم من الإسرائيليين أنفسهم، فتنال الفئات التي لا تتمتع بالصهيونية الكافية من وجهة نظر مذهبه، لكنه سعى إلى تحويل مكانته وتحسين صورته في الوسط السياسي، بتقمصه دورًا توعويًا يحذر من العدو الأكثر خطورة، وهو المواطن الفلسطيني في داخل الأراضي المحتلة، ، أو من وصفهم بـ"الطابور الخامس"، وموقفه من "حق اليهود" في دخول المسجد الأقصى في أيام الجمعة وأعياد المسلمين؛ ليجمع قدرًا كافيًا من الأصوات الداعمة في الانتخابات.
ومن هنا، أصبح هذا التشكيل الذي حاز السلطة في النهاية، هو ما يمثل هذه الدولة المزيفة، ولربما نقول إن إسرائيل نالت ما يليق بها من شخصيات تعكس أصلها العنصري والاستيطاني الإحلالي، مصوِّبة مدافعها وترسانتها الغاشمة نحو الشعب الفلسطيني، لتصب الحقد والكراهية على عرق أصيل ومقاوم لا يقبل الاستسلام أو بيع الأرض والإرث.
فنتنياهو اليوم، وبدعم من أعوانه من قائمته السوداء، يسلك في حرب الإبادة تلك مسارَين مختلفين:
- أحدهما معلن: يمثل أهدافًا للحرب بطرق دبلوماسية منمقة، بما لا يخالف اللوائح والقوانين الدولية، وبالطريقة التي يتحول القاتل فيها إلى ضحية، يدافع عن نفسه ووجوده، ضد إرهاب لا بد من القضاء عليه، حتى لا يتكرر ما يمكن أن يهدد سلامه.
- والآخر خفي، يمثل الأهداف الحقيقية في الإبادة وإشباع هوس التوسع الديمغرافي، واجتذاب الشعب المتفرق في بقاع الأرض، ليجتمع في الأرض الموعودة. وهذا ما تتم محاولة تحقيقه، توازيًا مع إلهاء العالم بقواه الغربية والإقليمية، وإغراقه في ضبابية المسار المعلن.
فشرارة الحرب لم تشتعل بـ"طوفان الأقصى"، فرد الفعل لا يمكن أن يكون فعلًا، ورواية "الردع" أكذوبة تخفي حقيقة "الإبادة".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.