تنشط في كل حين، ومنذ سنوات حملات التشويه للمواقف والإجراءات التي تتبناها الحكومات حول العالم، تحت ذرائع وحجج متنوعة، مبنية على أوهام تزرع في معامل الإعلام والهندسة المجتمعية، والمتواجدة في كل مكان، ولها مصالح تحكمها تلك الأمكنة، فهذه تريد تدمير بلد، وأخرى تريد بناء نفوذ في آخر.
أطلقت بعض الدول، دوريات إلكترونية، وهي أداة دفاعية قوية ومهمة، إن أُديرت بحصافة وقوة وثبات، ضمن خطوط عريضة، من قبل مَن هم مقتنعون بالرسالة الخارجة عنها ابتداءً، وتستهدف تحصين الجبهة الداخلية في الوطن
ومنذ سنوات، نشط ما يطلق عليه "الذباب الإلكتروني"، وهي حسابات تدار من مواقع معينة، في كافة أنحاء العالم، ولكنها توجه ضمن مصالح تلك الدول والمؤسسات التي تديرها، فمنها من يريد الدفاع والمقاومة؛ لمواجهة التشويه والإشاعات التحريضية على بلدانها، وهي أهداف "حميدة"، وصالحة، لا يمكن التحدث عنها بسوء، إذ إنها أداة دفاع مثلها مثل أي أداة دفاعية أخرى، في خضم مجتمع معلوماتي مشحون بالصراعات والمعارك.
وهناك من يدير تلك الأدوات، ويريد الخراب والدمار للأوطان، وهناك من يريد أن يكون له صوت، لكنه لا يتجرأ على خوض المواجهات، مداراةً لهذا وذاك، بعيدًا عن المصلحة الحقيقية، وللأسف "الطيبة"، المبالغ فيها تجعل من الشائعات والأدوات التخريبية تسرح وتمرح "على عاتقها"، فيما تقف أدواته متفرجة، ولا تقدم خطابًا موازيًا، ورؤية واضحة ومدعمة بالحقائق والشجاعة في نقد العدو، وكشف زيفه، فيترك هذه الأداة الخارجية تتفوه بما يسيء للوطن، ولا نجد ردًا حازمًا من قبل وسائل الإعلام عليه، من باب "سكن تسلم".
وقد أطلقت بعض الدول، دوريات إلكترونية، وهي أداة دفاعية قوية ومهمة، إن أُديرت بحصافة وقوة وثبات، ضمن خطوط عريضة، من قبل مَن هم مقتنعون بالرسالة الخارجة عنها ابتداءً، وتستهدف تحصين الجبهة الداخلية في الوطن، لا سيما أن "مواقع التواصل الاجتماعي"، باتت تكوينة مهمة من تكوينات المشهدية الأمنية الوطنية، بالنسبة لأي دولة في العالم، لا فرق في ذلك بين دول غنية أو فقيرة، ديمقراطية أو شمولية، فهي باتت مهمة، مثلها مثل الإعلام المؤسسي، وأدوات مختلفة، تشترك فيها خاصيتا الخير والشر معًا.
تقوم بعض الدول، على تمويل ودعم جيش من الحسابات والناشطين، لبث رسائلها لأعدائها سواء كانوا من الداخليين أو الخارجيين، وإن كان هؤلاء الأعداء من دول أخرى، أو حتى ممن يُدارون ويمولون من دول أخرى
إن "حظر" تطبيق ما، لا يمكن أن يكون علاجًا في ظل التقدم التقني، وتشعّب التطبيقات الاجتماعية، وأساليب الولوج للمنصات المحظورة، والتي منها مثلًا تيك توك، وما زالت الدول التي حظرتها غير قادرة على منعها، علاوة على حالة الرفض المؤسسي لمبدأ الحظر للتطبيق، عبر تواجد مؤسسات رسمية وغير رسمية في تلك الدول، على ذلك التطبيق.
فيما لا تزال دول تتلكأ في صناعة حائط صد ثقافي ضد التيارات المعادية لها عبر التطبيقات الاجتماعية، سواء لعدم القناعة، أو ربما لعدم وجود إطار قانوني ما ينظم عمل "الذباب الإلكتروني"، كما يحلو للبعض تسميته، أو كما أحب أن أصفه بذراع أمني إلكتروني رديف، فالثقافة جزء من الأمن الشامل لأي دولة، والثقافة لا تقتصر على إدارة الكتب والفنون والدراما فقط، بل تشمل أيضًا التصدي عبر الإعلام و"الذباب الإلكتروني"، والناشطين الموجهين من قبل الدولة.
فمثلًا تقوم بعض الدول، على تمويل ودعم جيش من الحسابات والناشطين، لبث رسائلها لأعدائها سواء كانوا من الداخليين أو الخارجيين، وإن كان هؤلاء الأعداء من دول أخرى، أو حتى ممن يُدارون ويمولون من دول أخرى، مقابل قيامهم بتوصيل رسائل تستهدف الفتّ في الوحدة الوطنية، وهذه صورة عما يصطلح عليه "الحرب الإلكترونية"، فكما كانت وسائل الإعلام أداة في الدول من أجل الاستعمار والاحتلال، وتصفية الحسابات، باتت التطبيقات الاجتماعية تقوم بهذا الدور، ما يتطلب بناء شبكة قوية من الحسابات التي تدار مركزيًا، إلى جانب ناشطين ذوي تأثير وكاريزما بالنسبة للجمهور، يحملون رسالة الدولة، بقوة وشجاعة، ويبادرون بنشر الخبر، وتسويقه، بما يردع الرواية المضادة.
إعلامنا لا يتجرأ كثيرًا في الدفاع عن روايته، وربما يعاني من غياب المركزية في صناعة السردية والرواية لأي حدث، مما يمكن التنبؤ به، ولا يقدم ردودًا على الشائعات التي تطول الدولة ومؤسساتها وذواتها المقدرة
للأسف، في الأردن، مثلًا، ورغم وجود عدد من الناشطين، ولكن لا نرى من يتصدى بقوة لرواية الآخر، والتي تشكك فيما تفعله المملكة من عمل، لحماية المنطقة من المزيد من الدماء، وتقدم المساعدات للأشقاء في غزة ولبنان مثلًا، في حين تثار موجة من الأكاذيب والتلفيقات في حدث مزدوج، بين الشعور بالكراهية تجاه وطننا من قبل مطلقي الشائعات والمحرضين ضدنا، والاعتماد على مصادر لا تصدق في مواضع أخرى، إذ ما يمنع أن تقوم وسيلة إعلامية ما بالكذب في كل ما تقدم، وهم للأسف عندما يتعلق الأمر بنا يصدقون العدو فيما يروج إعلامه، ولا يصدقون ما نقوله نحن.
المشكلة، ومن منظور علم اجتماع إعلامي، أن إعلامنا لا يتجرأ كثيرًا في الدفاع عن روايته، وربما يعاني من غياب المركزية في صناعة السردية والرواية لأي حدث، مما يمكن التنبؤ به، ولا يقدم ردودًا على الشائعات التي تطول الدولة ومؤسساتها وذواتها المقدرة، خشيةً من شيء ما مجهول، أو ربما خشية من الجمهور مثلًا، مع أن هنالك مؤسسات تقدم رواية بلدانها، وبشكل جريء وقوي، بغض النظر عن مدى صدقية تلك الرواية، ونحن لا يعوزنا "الصدق" في روايتنا كدولة، ولكن تعوزنا الشجاعة.
وما زال البعض لا يقرّ بسلطة "اليوتيوبر"، ذاك أننا لم نتعلم من تجربة ظهور الصحيفة والراديو والتلفزيون، والتي رافق كل ظهور لواحدة منها، أصوات متشككة ومنتقدة، الأمر الذي يعانيه "اليوتيوبر والتيك توكر"، وغيرهما من مسميات، خلقتها منظومة الإعلام الجديد.
ويعتقد البعض، أن عدم خضوع اليوتيوبر لمؤسسة ما، عيبٌ فيه، بيد أنه من الممكن معالجة الأمر، بربط الناشطين عبر شبكة واحدة مركزية، تعمل على الترخيص والتدريب، إلى جانب تنظيم "الكار"، وبما يخدم تعزيز رواية الدولة، ومنحهم المزيد من الشرعية، والتنظيم، وتوجيههم بما يخدم المصلحة الوطنية، ومنظومة الأمن الوطني الشاملة.
مع التقدير لخريجي الجامعات، ومعاهد الإعلام، ولكن إنكار دور التخصصات الإنسانية في حياكة الرواية، يمثل نوعًا من الاستئثار، رغم أن أول من بدأ صناعة الإعلام والصحافة في "أوطاننا"، هم الهواة والمحبون للمهنة، إلى جانب حَمَلة الثقافة والفكر، في مرحلة لم يكن للجامعات وجود من الأساس، بل كان هنالك أدباء ومثقفون تعلموا في الغرب، مختلف أصناف العلوم، وتأثروا بالتيارات الفكرية، وأنشؤوا الصحف والراديوهات لاحقًا والتلفزيونات.
"المشكلة"، من منظور قراءة "سوسيوإعلامية"، ليست هوية الممارس الأكاديمية، بقدر أنها مشكلة تنظيمية، وتدريبية، وثقافية تعوق البعض عن التطور والتعلم، إلى جانب التحول من الممارسة المهنية الإعلامية، إلى التجارية والتسويقية، بما يخدم "ما يطلبه الجمهور"، على حساب الرواية والسردية الوطنية أحيانًا، لا سيما عدم الجرأة في المدافعة والمواجهة لأصحاب الأصوات المغرضة والكارهة – الصدّاحة بالصوت العالي – مع خفوت أصواتنا وعدم شجاعتنا في الدفاع عن تضحيات أوطاننا منذ عقود.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.