قبل ثمانين عامًا، أشار المفكر السياسي البريطاني "هارولد لاسكي" في كتابه الحريات والدولة الحديثة، إلى أن الدول الناجحة بشكل عام هي التي تجعل السياسة تعمل دائمًا من أجل الاقتصاد، وليس العكس، ملقيًا الضوءَ بشكل خاص على أحوال الاقتصاد الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان يواجه خطر انكماش صادراته للعالم حينها.
لاسكي اقترح ثلاثة حلول لمواجهة ذلك:
- الأول، أن تعيد الدولة تنظيم القوى الشرائية لمواطنيها عبر نموذج الاقتصاد المخطط؛ لتعويض التراجع في تجارتها الخارجية.
- الثاني، أن تمنح الحكومة الأميركية مزيدًا من القروض؛ لدعم الطاقات الشرائية والاستهلاكية لعملائها الأجانب في دول العالم.
- الثالث، أن تفرض واشنطن صادراتها فرضًا على أسواق العالم، عبر العقوبات والحروب الاقتصادية.
بشّر ترامب عبر وعوده الانتخابية بإحداث قفزات مبهرة في مستوى معيشة الأميركيين، فهم على موعد مع تخفيض مؤثر في تكاليف استهلاك الكهرباء والطاقة، وتخفيضات ضريبية واسعة للشركات المحلية
هنا وبشكل مدهش تتلاقى من الماضي استشرافات لاسكي مع مستقبل ما فعله "دونالد ترامب" خلال فترة رئاسته الأولى 2016-2020، وما ينوي استكماله والقيام به بعد عودته الكبيرة في انتخابات 2024، فالأجندة الاقتصادية القادمة لترامب المعروفة انتخابيًا باسم " الأجندة 47 " – في إشارة لترتيب الرئيس القادم – تقوم في تفاصيلها المعاصرة على الخطوط العريضة لحلول لاسكي.
بشّر ترامب عبر وعوده الانتخابية بإحداث قفزات مبهرة في مستوى معيشة الأميركيين، فهم على موعد مع تخفيض مؤثر في تكاليف استهلاك الكهرباء والطاقة، وتخفيضات ضريبية واسعة للشركات المحلية، ودعم مطلق لاستقلال الولايات المتحدة في مجال النفط والغاز، وهو ما يتفق تمامًا مع تصورات نائبه المختار الشاب " جي دي فانس " مؤلف كتاب: " Hillbilly Elegy" الصادر عام 2016 والذي يركز على مناقشة ذات القضايا.
وربما يشكل نجاح ترامب في وعوده تلك أفضل ترجمة لحل لاسكي الأول بتعزيز قوى الطلب المحلي على المنتجات الأميركية، أما عن النفقات الرأسمالية الهائلة التي تتطلبها تخفيضات ترامب الضريبية وأيضًا قروض المستوردين الدوليين لما تنتجه أميركا، فإن هذا قد يضيف 450 ألف وظيفة زيادة عن خطة منافسه بحلول عام 2028، ولكن مع إضافة ضخمة للدين الأميركي تتراوح من 4.6 تريليونات دولار، إلى 7 تريليونات دولار بنهاية ولاية ترامب 2028، وذلك حسب توقعات وكالة "موديز" للتصنيفات الائتمانية للأولى، وحسب توقعات "بلاك رووك" صندوق التحوط الأكبر في العالم للثانية.
أما عن الحروب الاقتصادية، فليس أدلّ عليها في الماضي القريب جدًا من الحرب التجارية التي شنتها واشنطن على بكين في الولاية الأولى لترامب الذي يعتزم استئنافها بفاعلية في نسخته الثانية بالمزيد من الحمائية التجارية؛ بفرض رسوم جمركية تصل إلى 10% على جميع الواردات الأميركية، ومن 60% إلى 100% على جميع الواردات من الصين.
هنا لنا وقفة قصيرة مع اقتصاد التنين الذي يعاني حاليًا "لحسن حظ أميركا" من تناقضات معقدة وكثيرة في السياسات الاقتصادية، رصدتها مؤخرًا مناقشات الحزب الشيوعي في اجتماع رئيسي مغلق ينعقد كل خمس سنوات لهذا الشأن.
في انتخابات 2024 فتواجه أطروحات الأجندة 47 انتقادًا واسعًا، من تحذيرات على لسان دراسة لوكالة "موديز" من ركود اقتصادي محتمل للولايات المتحدة في منتصف 2025، في ظل رئاسة ترامب
فرغم حزمة الإنقاذ المالي الأخيرة التي تضخها بكين في شرايين اقتصادها العظيم، فإن معنويات مستهلكيها وشركاتها لم تذهب بعيدًا عن أدنى مستوى لها محليًا، وأسواق الأسهم تراوح قيعان خمس سنوات مضت، في ظل مخاطر تراجع الطلب والنمو والإنفاق، وارتفاع مستوى الديون، والتي تنذر كلها بضغوط انكماشية للصين كالتي حدثت لليابان في تسعينيات القرن الماضي.
وبالعودة لأجندة ترامب نرى انتقادات صارخة متكررة كلما قفز الرجل إلى الساحة، ففي ترشحه لانتخابات 2016 حذر الإعلام المعارض له مدعومًا بتقارير مؤسسات مالية كبرى من انكماش الاقتصاد الأميركي بنحو تريليون دولار، وخسارة سوق العمل 4 ملايين وظيفة حال انتخابه، لتنتهي نسخة ترامب الأولى " بدون تأثيرات وباء كورونا " بمتوسط نمو 2.6% للناتج المحلي الإجمالي.
أما الآن في انتخابات 2024 فتواجه أطروحات الأجندة 47 انتقادًا واسعًا، من تحذيرات على لسان دراسة لوكالة "موديز" من ركود اقتصادي محتمل للولايات المتحدة في منتصف 2025، في ظل رئاسة ترامب، بالإضافة لتجمع 16 اقتصاديًا من الحائزين جوائز نوبل، يتوقعون انكماشًا يطال الاقتصاد العالمي وليس الأميركي فقط، إذا نفذت سياسات ترامب المقترحة على أرض الواقع.
لا شك أن السياسة الأميركية تعمل من أجل الاقتصاد خاصة في عهد ترامب حتى لو غلب على ذلك المناورات الاستعراضية والصدامية، فالرجل حتى الآن يجيد البقاء بفاعلية في قلب أضواء المسرح، واقتصاد بلاده الأول عالميًا في تعافٍ ونمو يمنح مواطنيه مزيدًا من الحرية والثقة والمغامرة. تلك الثلاث التي لا يعيش أي منها في ظل اقتصادات الانكماش كما تحدث عنها هارولد لاسكي في كتابه المهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.